كأنه قيل : فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً. ويجوز أن يراد : ولو افتدى بمثله (١) ، كقوله : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ) والمثل يحذف كثيراً في كلامهم ، كقولك : ضربته ضرب زيد ، تريد مثل ضربه. وأبو يوسف أبو حنيفة تريد مثله ولا هيثم الليلة للمطىّ ، وقضية ولا أبا حسن لها ، تريد : ولا مثل هيثم ، ولا مثل أبى حسن ، كما أنه يراد في نحو قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، تريد أنت. وذلك أنّ المثلين يسدّ أحدهما مسدّ الآخر فكانا في حكم شيء واحد ، وأن يراد : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا كان قد تصدق به ، ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه. وقرئ : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ، على البناء للفاعل وهو الله عزّ وعلا ، ونصب ملء. ومل لرض بتخفيف الهمزتين
(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٩٢)
(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) لن تبلغوا حقيقة البرّ ، ولن تكونوا أبراراً. وقيل : لن تنالوا بر الله وهو ثوابه (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثرونها كقوله : (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) وكان السلف رحمهم الله إذا أحبوا شيئا جعلوه لله. وروى أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله. إن أحبّ أموالى إلىّ بيرحا فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بخ بخ ذاك مال رابح (٢) أو مال رائح وإنى أرى أن تجعلها في الأقربين» فقال أبو طلحة : افعل يا رسول الله فقسمها في أقاربه. وجاء زيد ابن حارثة بفرس له كان يحبها فقال : هذه في سبيل الله ، فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد ، فكأن زيداً وجد في نفسه وقال : إنما أردت أن أتصدق به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إن الله تعالى قد قبلها (٣) منك. وكتب عمر رضى الله عنه إلى أبى موسى الأشعرى أن يبتاع له جارية من سبى جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى ، فلما جاءت أعجبته فقال : إن الله تعالى يقول (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (٤) فأعتقها. ونزل بأبى ذرّ ضيف فقال للراعي
__________________
(١) (عاد كلامه) قال : «ويجوز أن يكون معنى الكلام ولو افتدى بمثله ... الخ» قال أحمد : وعلى هذا النمط يجرى الكلام على التأويل المتقدم لأنه نبه بعدم قبول مثلي ملء الأرض ذهباً على عدم قبول ملئها مرة واحدة بطريق الأولى.
(٢) متفق عليه من حديث إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة عن انس بن مالك رضى الله عنه.
(٣) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره والطبري من طريقه : أخبرنا معمر عن أيوب وغيره «أنه لما نزلت (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) جاء زيد بن حارثة بفرس له ـ فذكره وهو معضل. وأخرجه الطبري من رواية عمرو بن دينار نحوه مرسلا ، ورجاله ثقات.
(٤) رواه الطبري من رواية ابن أبى نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قال «كتب عمر إلى أبى موسى ـ فذكره».