البيان لما ترتبت عليه والبيان متحد بالمبين ، فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب : بين العصا (١) ولحائها ، فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه. والثانية لكونه مالكا لما يدبره. والثالثة لكبرياء شأنه. والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق ، وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة ، وغير المرتضى. والخامسة لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها ، أو لجلاله وعظم قدره. فان قلت : لم فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ما ورد منه قوله صلى الله عليه وسلم : ما قرئت هذه الآية في دار إلا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوما ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة ، يا علىّ علمها ولدك وأهلك وجيرانك ، فما نزلت آية أعظم منها (٢) وعن علىّ رضى الله عنه : سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم على أعواد المنبر وهو يقول : «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا
__________________
ـ الروم صهيب ، وسيد الحبشة بلال ، وسيد الجبال طور سيناء ، وسيد الأيام يوم الجمعة ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي». وإنما فضلت لما فضلت له سورة الإخلاص ، من اشتمالها على توحيد الله وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى» قال أحمد : وكان جدي رحمة الله عليه يقول : اشتملت آية الكرسي على ما لم تشتمل عليه آية من أسماء الله عز وجل وذلك أنها مشتملة على سبعة عشر موضعا فيها اسم الله تعالى ، ظاهرا في بعضها ومستكنا في بعض ، ويظهر لكثير من العادين منها ستة عشر إلا على بصير حاد البصيرة لدقة استخراجه. الأول الله ، الثاني هو ، الثالث الحي ، الرابع القيوم ، الخامس ضمير لا تأخذه ، السادس ضمير له ، السابع ضمير عنده ، الثامن ضمير إلا باذنه ، التاسع ضمير يعلم ، العاشر ضمير علمه ، الحادي عشر ضمير شاء ، الثاني عشر ضمير كرسيه ، الثالث عشر ضمير ولا يؤده ، الرابع عشر وهو ، الخامس عشر العلى ، السادس عشر العظيم. فهذه عدة الأسماء البينة. وأما الخفي فالضمير الذي اشتمل عليه المصدر في قوله : (حِفْظُهُما) فانه مصدر مضاف إلى المفعول ، وهو الضمير البارز ، ولا بد له من فاعل وهو الله ، ويظهر عند فك المصدر فيقول : ولا يؤده أن يحفظهما هو. وكان الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبى الفضل المرسى قد رام الزيادة على هذا العدد لما أخبرته به عن الجد رحمه الله فقال : يمكن أن يعد ما في الآية من الأسماء المشتقة كل واحد منها بآيتين. لأن كل واحد يتحمل ضميراً ضرورة كونه مشتقا ، وذلك الضمير إنما يعود إلى الله تعالى ، وهي باعتبار ظهورها اسم وقد اشتملت على آخر مضمر ، فيكون جملة العدد على هذا النظر أحداً وعشرين اسما ، وكنت قد أجريت معه في تعدد الزيادة المذكورة وجها لطيفاً ، وهو أن الاسم المشتق لا يتحمل الضمير بعد صيرورته بالتسمية علما على الأصح ، وهذه الصفات كلها أسماء الله تعالى ، ثم ولو فرضناها متحملة للضمائر بعد التسمية على سبيل التنزيل ، فالمشتق إنما يقع على موصوفه باعتبار تحمله ضميره. ألا تراك إذا قلت : زيد كريم ، وجدت «كريماً» إنما يقع على زيد ، لأن فيه ضميره ، حتى لو جردت النظر إليه لم تجده مختصا بزيد ، بل لك أن توقعه على كل موصوف بالكرم من الناس ، ولا تجده مختصا بزيد إلا باعتبار اشتماله على ضميره ، فليس المشتق إذاً مستقلا بوقوعه على موصوفه إلا بضميمة الضمير إليه ، فلا يمكن أن يجعل له حكم الانفراد عن الضمير مع الحكم برجوعه إلى معين ألبتة ، فرضي الشيخ المذكور عن هذا البحث وصوبه والله الموفق للصواب.
(١) قوله «بين العصا ولحائها» في الصحاح : اللحاء ـ ممدود ـ قشر الشجر. وفي المثل : لا تدخل بين العصا ولحائها. (ع)
(٢) لم أجده.