تلميذ الخليل
والذي يقول عنه أبو منصور الأزهري في مقدمة التهذيب :
«وإذ فرغنا من ذكر
الأثبات المتقنين ، والثقات المبرزين من اللغويين ، إعلاما لمن غبي عليه مكانهم من
المعرفة كى يعتمدوهم فيما يجدون لهم من المؤلفات المروية عنهم فلنذكر بعقب ذكرهم
أقواما اتسموا بسمة المعرفة وعلم اللغة ، وألّفوا كتبا أودعوها الصحيح والسقيم ،
وحشوها بالمزال المفسد ، والمصحف المغير الذي لا يتميز ما يصح منه إلا عند النّقاب
المبرز ، والعالم الفطن ، لنحذر الأغمار اعتماد ما دونوا ، والاستنامة إلى ما
ألّفوا.
فمن المتقدمين
الليث بن المظفر الذي نحل الخليل بن أحمد تأليف كتاب العين جملة لينفقه باسمه ،
ويرغب فيه من حوله.
وأثبت لنا عن
إسحاق بن إبراهيم الحنظلي الفقيه أنه قال :
كان الليث بن
المظفر رجلا صالحا ، ومات الخليل ولم يفرغ من كتاب العين ، فأحب الليث أن ينفق
الكتاب كله فسمى لسانه الخليل ، فإذا رأيت في الكتاب سألت الخليل بن أحمد ، أو
أخبرني الخليل بن أحمد ، فإنه يعني الخليل نفسه ، وإذا قال : قال الخليل فإنما
يعني لسان نفسه ، قال : وإنما وقع الاضطراب في الكتاب من قبل خليل الليث.
قلت : وهذا صحيح
عن إسحاق رواه الثقات عنه».
وينساق مع هذا
الخبر في دلالته ما جاء به ياقوت في الإرشاد (ج ١٧ ، ص ٥٢) وهو يترجم الليث هذا
فقال : «حدث أبو الحسن علي بن مهدي الكسروي ، حدّثني محمد بن منصور المعروف بالراح
المحدّث قال : قال الليث بن المظفر بن نصر بن سيار : كنت أصير إلى الخليل بن أحمد
فقال لي يوما : لو أن إنسانا قصد وألّف حروف : أب ت ث على ما أمثله لاستوعب في ذلك
جميع كلام العرب وتهيأ له أصل لا يخرج منه شيء البتة ، فقلت له : وكيف يكون ذلك؟ قال
: يؤلفه على الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي ، فإنه ليس يعرف في كلام العرب
أكثر منه.
قال الليث : فجعلت
أستفهمه ويصف لي ولا أقف على ما يصف ، فاختلفت إليه في هذا المعنى أياما ، ثم اعتل
وحججت فما زلت مشفقا عليه ، وخشيت أن يموت في علته فيبطل ما كان يشرحه لي ، فرجعت
من الحج وصرت إليه ، فإذا هو قد ألّف الحروف كلها على ما هي عليه في الكتاب ، وكان
يملي علي ما يحفظ ، وما شك فيه يقول لي : سل عنه ، فإذا صح فأثبته إلى أن عملت
الكتاب».
لقد شهد الليث هنا
على نفسه بلسانه أنه الذي عمل الكتاب.
وثمة حكاية في شأن
الليث مع العين هي أشبه بالقصص منها بالتاريخ وهي ما يرويه لنا ابن المعتز في
طبقات الشعراء (ص ٩٦ ـ ٩٨) فيقول :
«حدّثني أبو
العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن جعفر قال : حدّثني الحسن بن المهلبي قال :
كان الخليل بن
أحمد منقطعا إلى الليث بن نصر بن سيار ، وكان الليث من أكتب الناس في زمانه ، وكان
بارع الأدب بصيرا بالنحو والشعر والغريب ، وكان يكتب للبرامكة ، ويطير معهم في
دولتهم بجناحين ، وكانوا به معجبين ، فارتحل إليه الخليل بن أحمد ، فلما عاشره وجده
بحرا ، فأجزل له وأغناه ، وأحب الخليل أن يهدي إليه هدية تليق به ، فأقبل وأدبر ،
وعلم أن المال والأثاث لا يقع منه موقعا حسنا لوجود ذلك عنده ، وكثرته لديه ، وأنه
لا يسر بشيء سروره بمعنى لطيف من الأدب ، فجهد نفسه في تصنيف كتاب العين ، فصنفه
لليث بن نصر دون سائر الناس ، ونمقه وحبره ، وأخرجه في أسرى ظرف وأحسن خط ، فوقع
منه موقعا عظيما ، وسر به سرورا شديدا ، فوصله بمائة ألف درهم ، واعتذر إليه من
التقصير ، وأقبل ينظر فيه ليلا ونهارا ، ولا يمل منه ولا يفتر ، وكان يغدو ويروح
على البرامكة فكأنه على الرضف حتى يرجع إلى الكتاب وينظر فيه ، إلى أن حفظ نصف
الكتاب ، وكانت تحته بنت عم له ، وكانت سرية نبيلة موسرة جميلة ، وكانت تهوى ابن
عمها وتجلّه ، فاشترى الليث جارية نفيسة فائقة الجمال بثمن جزيل فأقعدها في منزل
صديق له يتسرى