يشاء من عباده لا إله غيره. وشاهدنا بعد ذلك مجالس لسواه من وعاظ بغداد ممن يستغرب شأنه بالاضافة لما عهدناه من متكلمي الغرب ، وكنا قد شاهدنا بمكة والمدينة شرفهما الله مجالس من قد ذكرناه في هذا التقييد ، فصغرت بالاضافة لمجلس هذا الرجل الفذ في نفوسنا قدرا ، ولم نستطب لها ذكرا ، واين تقعان مما أريد ، وشتان بين اليزيدين ، وهيهات ، الفتيان كثير ، والمثل بمالك يسير. ونزلنا بعده بمجلس يطيب سماعه ، ويروق استطلاعه. وحضرنا له مجلسا ثالثا يوم السبت الثالث عشر لصفر بالموضع المذكور بازاء داره على الشط الشرقي ، فاخذت معجزاته البيانية مأخذها ، فشاهدنا من أمره عجبا ، صعّد بوعظه أنفاس الحاضرين سحبا ، وأسال من دمعهم وابلا سكبا ، ثم جعل يردد في آخر مجلسه أبياتا من النسيب شوقا زهديا وطربا ، إلى أن غلبته الرقة فوثب من أعلى منبره والها مكتئبا ، وغادر الكل متندّما على نفسه منتحبا ، لهفان ينادي يا حسرتا واحربا. والنادبون يدورون بنحيبهم دور الرحى ، وكل منهم بعد من سكرته ما صحا ، فسبحان من خلقه عبرة لأولي الالباب ، وجعله لتوبة عباده أقوى الاسباب ، لا إله سواه» (٥٧).
وبرغم ما في قول ابن جبير من المبالغة التي اقتضاها السجع أحيانا في أسلوبه البياني ، فان القارىء يدرك ما كان لمجالس هذا الامام الجليل من الأثر في نفوس الناس. وكان الخليفة المستضيء قبل الناصر يطلبه ويأمره بعقد مجلس الوعظ ، ويجلس بحيث يسمع ولا يرى (٥٨). ولمّا خطب للمستضيء بمصر صنّف ابن الجوزي كتابا خاصا بهذه المناسبة سمّاه النصر على مصر (٥٩). وكان لابن الجوزي في عهد الناصر نفسه
__________________
(٥٧) ابن جبير. ١٩٩ ـ ٢٠٣.
(٥٨) ابن العماد الحنبلي ٤ : ٢٥٠.
(٥٩) ابن رجب (الذيل) ١ : ٤٠٤.