(شباط) ، فإن ميزان الحرارة كان يصل إلى ٢٣ درجة على ميزان رومير (١) ؛ لقد كان هواء الجنوب العنيف يلفظ النار بدل أن يأتي بالنسيم ، كان الجو خانقا ، وكنت أشعر أنه يسحقني تحت وطأته ، وكنت أجد صعوبة في السير ، وكان جسدي كله مشبعا برطوبة غير محتملة. وأزيد على ذلك بالقول إن الذباب والبعوض كان مزعجا كل الإزعاج.
ويسكن جدة أيضا سكان آخرون ذوو أجنحة ؛ وهم نوع من البواشق (الباز) ، نجده في كل المدن العربية ، وأنا ، منذ رحلتي ، ما إن أسمع أصواتها الحادة ، / ١٣٠ / حتى ترتسم في اللحظة نفسها في مخيلتي منارات ، ونخيل وعمائم.
وإذا خرجنا من جدة عبر باب مكة المكرمة فإننا نجد أنفسنا مباشرة في معسكر إفريقي حقيقي : إن أكواخ القش أو النخيل المنتشرة على حدود الصحراء ، والتي تبدأ كما هو الحال في ينبع والطور والسويس على أبواب المدينة ، تلك الأكواخ ، هي مساكن النوبيين الذين يعملون في الميناء والسوق ، وتسكنها أيضا بعض الأسر الفقيرة من جدة ، والتي لا تستطيع لفقرها السكن في مكان آخر.
إن النساء الحرائر من الطبقات الفقيرة يسكنّ أيضا هذا المصبّ القذر ؛ ناهيك عما يقوم بهذا الحي من صناعات بسيطة ، فإنه ينعقد فيه سوق للخشب والخضار ، وسوق للمواشي. وإن للعجول في هذا البلد حدبة ، وهي صغيرة الحجم وغالية جدا : إذ يباع الواحد بستة تلرات ؛ وهو لا يساوي في مصوع إلا تلرا واحدا. وليس ببعيد ، وبالقرب من باب المدينة المنورة ، هناك ثكنة عسكرية أقامها محمد علي أيام حربه مع الوهابيين ، وقائد هذه الثكنة إسماعيل بيك ، وهو بنباشي (٢) تركي ، وهو أكثر أدبا من نظيره في سيناء ، وقد كان يبدي
__________________
(١) ميزان روميرRaumur : ميزان حرارة يشير فيه الصفر إلى درجة التجمد ، و ٨٠ إلى درجة الغليان.
(٢) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٣٨٧.