ولما وصلت معسكر
محمد كاشف لم أجده لأنه كان مشغولا مع أخيه بتسلم الحصن. والتف قومه بى وبالخبير
يسألوننى فيم قدمت بلادهم ، ظانين أننى من حاشية المملوكين اللذين علموا بوصولهما
إلى الدر. وبعد قليل أقبل محمد بحاشيته من الضفة الأخرى ، فمضيت إليه فورا لأحييه.
وكانت أمه جارية من أهل دارفور ، فكانت لوجهه قسمات السودانيين ، ولكنه خلا تماما
من هذه الرقة التي تتسم بها وجوه الزنج ، بل قرأت فى سحنته الشراسه وحدة الطبع. ودحرج
عينيه وهو ينظر ناحيتى نظرة مجنون ، ولم يكن يقوى على الوقوف على قدميه لفرط ما
تعاطى فى الحصن من عرقى البلح. واجتمع قومه داخل خصه المفتوح ومن حوله ، وكذلك وفد
عليه الثوار المهزومون. وجىء بقربتين كبيرتين من العرقى وقدم الشراب للحاضرين فى
أكواب صغيرة مصنوعة من القرع صنعا متقنا. وكان منهم قلة تتكلم العربية ، أما كاشف
فلم يكد يبين. على أنه ظهر لى بجلاء أننى كنت محور حديثهم. ولم يكن كاشف فى سكره
قد سألنى بعد من أنا وما مهمتى. وبعد نصف ساعة كان الجميع قد ثملوا بالخمر ، ثم
جىء بالبنادق وأطلقت الأعيرة النارية فى الكوخ ابتهاجا بالنصر. وأعترف أننى فى هذه
اللحظة ندمت على مجيئى للمعسكر ، فقد كان من السهل أن تسدد إلىّ إحدى هذه البنادق
أو تصيبنى منها رصاصة طائشة. وقد حاولت النهوض للانصراف غير مرة ، ولكن كاشف كان
يحتجزنى وهو يلح على فى الشراب حتى أثمل معه. غير أنى لم أصب من الشراب إلّا أقله
، فما كان أحوجنى الآن إلى الصحو. وما انتصف النهار حتى كان جميع من بالمعسكر
يغطون فى سبات عميق. وبعد ساعات كان كاشف فى حال من الصحو تمكنه من التحدث إلىّ
وهو مالك زمام نفسه ، فأخبرته أننى جئت النوبة لأزور حصنى إبريم وصاى الأثريين
بوصفهما من آثار دولة السلطان سليم ، وأننى أحمل له ولأخويه توصيات من إسنا ، وقد
جئت المحس مسلما عليه وعلى أخيه ، لأننى لم أر من اللياقة أن أعود أدراجى من صاى
دون أن أقوم بواجب التحية لهما. ولكن لسوء الحظ كان حسن كاشف قد احتفظ بخطابات
التوصية التى أحملها من إسنا ، والموجهة للأخوة الثلاث ، فقد أبى أن يعيدها إلىّ
حين غادرت الدر