في غد ذلك اليوم ، فحين عرف شمس الملوك جلية حاله ، ضاق صدره لإفلاته من يده ، وتضاعف ندمه لفوات الأمر فيه ، وكاتبه بما يطيب نفسه ، ويؤنسه بعد استيحاشه ، فلم يصغ إلى ذلك ، بل أجابه جواب الخاضع ، والطائع ، والعبد الناصح ، والمستخدم المخلص ، ويقول : «إنني في هذا المكان خادم في حفظه ، والذب عنه» ، فلما وقع اليأس ، وعلم أن المقال لا ينجع ، حنق عليه ، وذكره بكل قبيح ، وأظهر ما يسره في نفسه ، ولم يعرض لشيء من ملكه وداره ، وإقطاعه وأهله وأسبابه ، وتجدد بعد ذلك ما يذكر في موضعه ، وكان هروبه في ليلة الجمعة لليلة خلت من المحرم سنة تسع وعشرين وخمسمائة ، من الضيعة الجارية في إقطاعه ، المعروفة بالمنيحة (١) من الغوطة.
وفي هذه السنة شاعت الأخبار في دمشق بين خاصتها وعامتها ، عن صاحبها الأمير شمس الملوك أبي الفتح اسماعيل بن تاج الملوك بوري ابن ظهير الدين أتابك ، بتناهيه في ارتكاب القبائح المنكرات ، وإيغاله في اكتساب المآثر المحظورات ، الدالة على فساد التصور والعقل ، وصداء الحس وظهور الجهل ، وتبلد الفهم ، وحب الظلم ، وعدوله عما عرف فيه من مضاء العزيمة في مصالح الدين ، والمسارعة إلى الجهاد في الأعداء الملحدين ، وشرع في مصادرات المتصرفين ، والعمال ، وتأول المحال على المستخدمين في الأعمال ، واستخدم بين يديه كرديا ، جاءه من ناحية حمص ، يعرف ببدران الكافر ، لا يعرف الإسلام ، ولا قوانينه ، ولا الدين وشروطه ، ولا يرقب في مؤمن ولا ذمة ، ونصبه لاستخراج مال المصادرين من المتصرفين ، والأخيار المستورين بفنون قبيحة اخترعها في العقوبات ، وأنواع مستبشعة في التهديد لهم والمخاطبات وظهر من شمس الملوك ، مع هذه الحال القبيحة ، والأفعال الشنيعة ، بخل زائد واسفاف نفس إلى الدنايا متواصل ، بحيث لا يأنف من تناول الخسيس
__________________
(١) لعلها القرية المعروفة الآن باسم «المليحة» في الغوطة الشرقية ، وتبعد عن دمشق مسافة / ١٢ كم /.