استقلالا لها ، وإنما ذلك لعذر ، فألّح عليه القاضى نجم الدين فى القبول فأبى ، فقال لها القاضى نجم الدين : لابد من قبولك لذلك ، أو تخبرنى بعذرك. فقال : إخبارى بالعذر أهون علىّ ، وهو أنا يا بنى الزيلعى ، نسكن السّلامة وحيس من بلاد اليمن ، ولنا بهما مزارع ، يتحصّل منها ما يقوم بكفايتنا ، ويفضل لنا نزر يسير ، فقدّر فى بعض السنين ، أنى استدنت لأجل ولائم أعراس وطهارات ، حتى بلغ دينى خمسة عشر ألف دينار ، يعنى ستين ألف درهم ، فشقّ ذلك علىّ ، ولحقنى منه همّ ، وبلغ خبرى إلى بعض جهات السلطان ، فبعثت إلىّ بمقدار ما علىّ ، وهو خمسة عشر ألف دينار ، فى خمسة عشر كيسا مع خادمها ، ولم أشعر بذلك إلا عندى ، فوضعه بين يدىّ ، وأبلغنى رسالة مولاته ، وهو أنه بلغها ما علىّ الدين ، فبعثت إلى هذا المال لوفائه ، فرأيت كأن فى بيتى خمسة عشر حيّة ، فعرفت من أين أتيت ، وأجمعت على رد المال لمن أرسله ، وقلت : هذا مال لا يملكونه ، إذا أخذته صار فى ذمتى ، ولا أعرف أنا أصحابه ، فأستحلّ منهم ، أو أؤديه إليهم ، وأصحاب الدين الذى علىّ غير مطالبين لى ، فنهانى عن ردّه جميع أهلى حتى الخادم ، وأسا علىّ فى ذلك ، فلم أقبل ، فرددته.
وكان ذلك فى أوان الحصاد ، وسعر الطعام إذا ذاك ، المدّ بخمسة وعشرين دينارا ، فلم يزل السعر يرتفع قليلا قليلا ، حتى بلغ المدّ مائة وخمسة وعشرين دينارا ، فبعت بهذا السعر من غلتى ما يفى بدينى ، وفضل لى فضلة ، ثم تنازل السعر حتى صار المدّ بخمسة وعشرين. فعرفت أن ذلك عناية من الله بى ، لتوقّفى فى ذلك المال ، وعقدت مع الله عقدا ، أن لا أقبل من أحد شيئا ، فهل ترى يا نجم الدين أن أنقض هذا العقد؟ وأقبل هذا المال!. فقال : لا يا سيدى.
هذا ما أخبرنى به بعض الناس ، إلا أنه شكّ فى هذه الحكاية ، هل اتفقت لهذا الشيخ أو لوالده الآتى ذكره؟ والصواب أنها لهذا الشيخ ، لأن سياق الخبر يدل له ، وهو كون صاحب المال كريم الدين الكبير ، وغير ذلك. وسمعت بعض الناس يذكر هذه الحكاية على غير هذا الوجه ، وملخّص ذلك : أن القاضى نجم الدين الطبرى ، فرّق صدقة لفخر الدين ناظر الجيش ، فبعث إليه منها بألف درهم ، فردها ، فزيد ألفا ، فردها ، ثم ألفا ، فردها ، ثم ألفا ، فردها.
فلما كان فى المرة الخامسة ، توجه إليه القاضى نجم الدين ، وسأله قبول ذلك ، وبالغ واعتذر إليه بقلة الحاصل ، فأبى الشيخ من القبول ، وقال له : ما رددت ذلك استقلالا ، وإنما رددته لعهد عقدته مع الله تعالى.