قدره. وبه من عجائب الآثار ما لا يضبطها العيان ، فضلا عن الإخبار ، من ذلك الهرمان اللذان هرم الدهر وهما لا يهرمان ، قد اختصّ كلّ منهما بعظم البناء وسعة الفناء ، وبلغ من الارتفاع غاية لا يبلغها الطير على بعد تحليقه ، ولا يدركها الطّرف على مدّة تحديقه ؛ فإذا أضرم برأسه قبس ظنّه المتأمّل نجما ، وإذا استدار عليه قوس السماء كان له سهما.
وقال صاحبنا الشهاب المنصوريّ :
إن جزت بالهرمين قل كم فيهما |
|
من عبرة للعاقل المتأمّل |
شبّهت كلّا منهما بمسافر |
|
عرف المحلّ فبات دون المنزل |
أو عاشقين وشى بوصلهما أبو ال |
|
هول الرّقيب فخلّفاه بمعزل |
أو حائرين استهديا نجم السّما |
|
فهداهما بضيائه المتهلّل |
أو ظامئين استسقيا صوب الحيا |
|
فسقاهما عذبا رويّ المنهل |
يفنى الزّمان وفي حشاه منهما |
|
غيظ الحسود وضجرة المستثقل |
ذكر بناء الإسكندرية
أخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر ، والبيهقي (١) في دلائل النبوّة ، عن عقبة بن عامر الجهنيّ رضياللهعنه ، قال : جاء رجال من أهل الكتاب ، معهم كتب إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إن شئتم أخبرتكم عمّا أردتم أن تسألوني قبل أن تتكلّموا ، وإن شئتم تكلّمتم وأخبرتكم! قالوا : بل أخبرنا قبل أن نتكلّم ، قال : جئتم تسألونني عن ذي القرنين ، وسأخبركم كما تجدونه مكتوبا عندكم ؛ إنّ أوّل أمره أنّه كان غلاما من الرّوم ، أعطي ملكا ، فسار حتّى أتى ساحل البحر من أرض مصر ، فابتنى عنده مدينة يقال لها الإسكندرية ، فلما فرغ من بنائها أتاه ملك ، فعرج به حتّى استقلّه فرفعه ، فقال : انظر ما تحتك ، قال : أرى مدينتي ، وأرى مدائن معها ، ثمّ عرج به ، فقال : انظر ، فقال : قد اختطلت مع المدائن فلا أعرفها ... الحديث بطوله ؛ وقد أوردته في التفسير المأثور في سورة الكهف.
وأخرج ابن عبد الحكم ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : كان أوّل شأن الإسكندريّة أنّ فرعون اتّخذ بها مصانع ومجالس ، وكان أوّل من عمرها وبنى فيها ، فلم
__________________
(١) هو أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى البيهقي ، رحل في طلب العلم ، من مصنفاته : دلائل النبوّة ، السنن الكبير والصغير ، الآثار ، مناقب أحمد بن حنبل ... عاش بين عامي ٣٨٤ ـ ٤٥٨ ه. [وفيات الأعيان : ١ / ٧٥ ، ٧٦].