طولون ، فضاق بالجند والرعيّة ، فبنى في شرقيّة مدينة ، وسمّاها القطائع ، وأسكنها الجند ، يكون مقدارها ميلا في ميل. ولم تزل عامرة إلى أن هدمها محمد بن سليمان الكاتب في أيّام المكتفي ، حنقا على بني طولون سنة اثنتين وتسعين ومائتين ، وأبقى الجامع. ثمّ ملك العبيديّون (١) مصر في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة ، فبنى جوهر (٢) القائد مولى المعزّ مدينة شرقيّ مدينة ابن طولون ، وسمّاها القاهرة ، وبنى فيها القصور لمولاه ، فصارت بعد ذلك دار الملك ومقرّ الجند.
قال في السّكردان (٣) : وكان جوهر لمّا بنى القاهرة سمّاها المنصورة ، فلمّا قدم المعزّ غيّر اسمها ، وسمّاها القاهرة ؛ وذلك أن جوهرا لمّا قصد إقامة السّور جمع المنجّمين ، وأمرهم أن يختاروا طالعا لحفر الأساس ، وطالعا لريّ حجارته ، فجعلوا قوائم من خشب ، بين القائمة والقائمة حبل فيه أجراس ، واعلموا البنّائين أنّه ساعة تحريك الأجراس يرمون ما بأيديهم من الطّين والحجارة ، فوقف المنجّمون لتحرير هذه الساعة ، وأخذ الطّالع ، فاتّفق وقوع غراب على خشبة من الخشب ، فتحرّكت الأجراس ، فظنّ الموكّلون بالبناء أنّ المنجّمين حرّكوها ، فألقوا ما بأيديهم من الطين والحجارة في الأساس ، فصاح المنجّمون : «لا ، لا» ، القاهر في الطالع ، فمضى ذلك فلم يتم لهم ما قصدوه ؛ وكان الغرض أن يختاروا طالعا لا يخرج عن نسلهم ، فوقع أنّ المرّيخ كان في الطالع ؛ وهو يسمّى عند المنجّمين القاهر ؛ فعلموا أنّ الأتراك لا بدّ أن يملكوا هذه القرية ، فلما قدم (٤) المعزّ ، وأخبر بهذه القضيّة ـ وكان له خبرة تامّة بالنّجامة ـ وافقهم على ذلك وأنّ التّرك تكون لهم الغلبة على هذه البلدة ، فسمّاها القاهرة ، وغيّر اسمها الأول.
__________________
(١) سميت الدولة الفاطمية بالعبيدية نسبة إلى أول خلفائها عبيد الله المهدي. [انظر الكامل لابن الأثير : ٦ / ١٢٤].
(٢) هو أبو الحسن جوهر بن عبد الله القائد المعزّي المعروف بالكاتب مولى المعزّ لدين الله أبي تميم معد العبيدي الفاطمي. [الكامل لابن الأثير : ٧ / ٣١].
(٣) صاحبه ابن حجلة كما جاء في مقدّمة المؤلف.
(٤) قدم المعزّ من الغرب إلى مصر سنة ٣٦١ ه. [انظر الكامل لابن الأثير : ٧ / ٤٥].