اليمامة ضرب عسكره على الجرعة التي بين الحيرة والنهر وتحصن منه أهل الحيرة في القصر الأبيض ، وقصر ابن بقيلة ، فجعلوا يرمونه بالحجارة حتى نفدت ، ثم رموه بالخزف ، من آنيتهم ، فقال له ضرار بن الأزور : ما لهم مكيدة أعظم مما ترى فبعث إليهم ابعثوا إليّ رجلا من عقلائكم أسائله ويخبرني عنكم ، فبعثوا عبد المسيح ابن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة الغساني وهو يومئذ ابن خمسين وثلاثمائة سنة ، فأقبل يمشي الى خالد ، فلما رآه قال : ما لهم أخزاهم الله بعثوا إلى رجلا لا يفقه فلما دنا من خالد قال : أنعم صباحا أيها الملك ، فقال خالد : قد أكرمنا الله بغير هذه التحية بالسلام ، ثم قال له خالد : من أين أقصي أثرك؟ قال : من ظهر أبي ، قال : من أين خرجت؟ قال : من بطن أمي ، قال : على ما أنت؟ قال : على الأرض ، قال : فيم أنت ويحك؟ قال : في ثيابي ، قال : أتعقل؟ قال : نعم وأقيد ، قال : ابن كم أنت؟ قال : ابن رجل واحد ، قال خالد : ما رأيت كاليوم قط أسائله عن شيء وينحو في غيره ، قال : ما أجبتك إلا عما سألت عنه ، فاسأل عما بدا لك ، قال : كم أتى لك؟ قال : خمسون وثلاثمائة ، قال : أخبرني ما أنتم؟ قال : عرب استنبطنا ، ونبط استعربنا ، قال فحرب أنتم أم سلم؟ قال : بل سلم ، قال : فما بال هذه الحصون؟ قال : بنيناها لنحبس السفيه حتى ننهاه بالحليم.
قال : ومعه سم ساعة (٩٠ ـ و) يقلبه في يده ، فقال له : ما هذا معك؟ قال : هذا السم ، قال : فما تصنع به؟ قال : أتيتك فإن رأيت عندك ما يسرني وأهل بلدي حمدت الله ، وإن كانت الأخرى لم أكن أول من ساق إليهم ضيما وبلاء فآكله وأستريح ، وإنما بقي من عمري يسير ، فقال : هاته فوضعه في يد خالد ، فقال : بسم الله وبالله رب الأرض ، ورب السماء الذي لا يضر مع اسمه داء ثم أكله فتجلته غشية فضرب بذقنه على صدره ، ثم عرق وأفاق فرجع ابن بقيلة الى قومه ، فقال : جئت من شيطان أكل سم ساعة فلم يضره أخرجوهم عنكم فصالحوهم على مائة ألف ، فقال له خالد : ما أدركت؟ قال : أدركت سفن البحر ترقأ إلينا في هذا الجرف ، ورأيت المرأة من أهل الحيرة تخرج الى الشام في قرى متواترة ما تزود رغيفا ، وقد أصبحت خرابا يبابا وكذلك دأب الله في العباد والبلاد ، وقال عبد المسيح حين رجع :
أبعد المنذرين أرى سواما |
|
يروح بالخورنق والسدير |