ما كنت أسمع السماعات الكثيرة ، فلا أقول سمعوا لي وإلّا لو كنت ممن لا يحتشم لقد كان من السماع بيد الناس غير قليل ، وكان أبو علي اذا عبر عن لفظ ما ، فلم ـ يفهمه القارئة عليه وأعاد (١٥٠ ـ و) ذلك المعنى عينه بلفظ غيره ففهمه ، يقول : هذا اذا رأى ابنه في قميص أحمر عرفه ، واذا رآه في قميص كحلي لم يعرفه ، وكان رحمه الله خشن الملمس ، حزن المتنفس ، يريد من مبتدئي أصحابه أن يفهموا اللفظة من العلم بالكشف من القول ، وكان ربما توقف بعضهم عن فهم ما يقوله ، فينبو عنه ، ويقول له : يا هذا أليس قد مضى في ذلك اليوم لنا شيء يشبه هذا ، وو الله ما نعلم الى شيء يومي ولا كم بعد ذلك اليوم من يوم مجلسهما ، ولعله أن يكون منذ ذلك اليوم الى وقتهما من الاصول والفروع ما لا يحيط بعلمه إلّا الله خالقهما.
ومما نقله من خط ابن برهان قال أبو الفتح : وكان أبو علي رحمه الله كثيرا ما يروم إبراز الشيء الى لفظه وهو نصب عينه ، ونجي فكره وساتر بينه وبين كل مرأي غيره ، إلّا أنه مع ذلك معازله متأب عليه غير مسمح ولا منقاد معه ، فان لم يكن إلّا آخذ عنه سهل المذهب سرحه ، طيع الطبع سجحه (١) قد جاوده الى الأمد ، وقاوده الى الخبار (٢) والجدد (٣) ، وفاتشه الأنقاب ، وصحبه في كل أوب وباب ، أجبلا (٤) فلم ينبطا (٥) ، وكان حري أن يحتذا ويختلطا ، ثم كيف لنا بعد ساعة من ساعاته ، ونفثة من رقياته ، وعفا الله عنه فما أقل العوض في هذا السواد منه.
قرأت بخط سعيد بن المبارك بن الدهان النحوي ، ذكر أبو الفتح في النوادر ، أن كتب أبي علي الفارسي احترقت بالبصرة في ربيع الاول سنة خمس وثلاثمائة بدار أبي الريان الأهوازي الكاتب ، وكان قد اسكنه إياها ، ولم يكن بالدار تلك الساعة ، فلما علم جاء الى الدار فوقع من غلامه المفتاح وكان الخشب ساجا (٦) فلم ينكسر ، فصعدوا الى السطوح وكان للدرجة باب مغلق فلم ينفتح وقويت النار فحالت بينه وبين الكتب ، وكان في الدار أثاث كثير لصاحبها ، فغشي على الشيخ ،
__________________
(١) سجح : سهل ولان. القاموس.
(٢) الخبار : ما لان من الارض واسترخى ـ القاموس.
(٣) الجدد : ما استرق من الرمل ، والارض الغليظة المستوية. القاموس.
(٤) أجبلوا : صاروا الى الجبل ، وأجبله : وجده جبلا ، أي بخيلا. القاموس.
(٥) نبط الماء : نبع ، واستنبط : استخرج. القاموس.
(٦) من الانواع القاسية.