حدثني والدي رحمه الله يأثره عن سلفه قال : قدم السلطان ، يعني ألب أرسلان ، وحاصر حلب ، وكان نازلا بميدان قنسرين ، ونصب على برج الغنم منجنيقا وتواتر ضرب المنجنيق عليه ، فأخذ عوام حلب شقة أطلس وربطوها على ذلك البرج استهزاء به ، يعنون أن البرج قد صدعه رأسه من ضرب المنجنيق ، فسأل السلطان عن ذلك ، فقالوا : إنهم قد عصبوا البرج ، يعنون أن البرج قد صدعه رأسه من ضرب المنجنيق ، وقد عصبوه على رأسه ليستريح من الصداع الذي يلحقه من ضرب المنجنيق.
قال : فاستشاط السلطان غضبا وفرق تلك الليلة في عسكره كذا وكذا ألف فردة نشاب من الخلنج (١) غير ما كان من غيرها ، وباكر البلد بالزحف حتى أشرف على الأخذ ، فخرجت إليه السيدة أم محمود ومعها ابنها محمود ، وحملا مفاتيح البلد والقلعة ودخلا تحت طاعته ، ووطئا بساطه ، والناس في خدمته بالميدان صفان ، فدخلت وابنها بين الصفين ، وجعلا يقبلان الارض خدمة له حتى انتهيا إليه ، فأكرمهما وقال للسيدة : أنت السيدة؟ فقالت : سيدة قومي ، فاستحسن ذلك منها ، ورد البلد على ابنها وأكرمه ، وعاد الى المدينة مكرما مسرورا.
قال : وقصد بتطويل الحصار تعظيم البلدة لكونها مجاورة للروم ، فيقع عندهم أن هذا السلطان مع عظم قدره ، وكثرة عساكره نزل عليها هذه المدة ، ولم ينل منها ما أراد ، فلا يطمع فيها العدو (٢٧٨ ـ ظ).
وقيل إن السيدة أقامت في البلد ، وخرج محمود إليه ، وأن دخولها عليه كان بالرّها. توجهت اليه وهو متوجه الى حلب ، فسألها : أنت السيدة؟ فأجابته بما ذكرناه.
وقرأت بخط أبي الفوارس حمدان بن عبد الرحيم : إن محمود ووالدته خرجا إليه ، فعفا لهما عن حلب بعد أحد وثلاثين يوما من مقامه.
وسمع أن ملك الروم ديوجانس قد خرج من القسطنطينية على طريق الثغور
__________________
(١) أي المختلفة الانواع. انظر المعرب للجواليقي : ١٢٦. هذا وفي الدارجة الشامية «الخلنج» «الجديد».