فنزلنا جميعا وصلينا الصبح وركبنا وحثثنا دوابنا وأعملنا السير حتى وصلنا الموصل ، فوجدنا البرسقي مريضا قد أشفي وهو يسقى أمراق الفراريج المدقوقة ، فأعلم بمجيئنا ، فأذن لنا ، فدخلنا عليه ووجدناه مريضا مدنفا ، فشكونا اليه وطلبنا منه أن يغث المسلمين ، وذكرنا له ما حل بهم من الحصار والضيق وقلة الأقوات ، وما آل اليه أمرهم ، فقال : كيف لي بالوصول الى ذلك ، وأنا على ما ترون؟ فقلنا له : يجعل المولى في نيته وعزمه ان خلّصه الله من هذا المرض أن ينصر المسلمين ، فقال : أي والله ، ثم رفع رأسه الى السماء وقال : اللهم اني أشهدك على أنني ان عوفيت من مرضي هذا لأنصرنّهم ، قال : فما استتم ثلاثة أيام حتى فارقته الحمى واغتدى ، ونادى في عسكره للغزاة ، وبرز خيمته وخرجت عساكره وعملوا أشغالهم ، وتوجه بهم حتى أتى حلب ، فلما قاربها ، وأشرفت عساكره من المرتب رحل الفرنج ، ونزلوا على جبل جوشن وتأخروا عن المدينة ، وساق الى أن قارب المدينة وخرج أهلها الى لقائه ، فقصد نحو الفرنج وأهل البلد مع عسكره ، فانهزم الفرنج من يديه ، وهو يسير وراءهم على مهل حتى (٢٧٥ ـ و) أبعدوا عن البلد ، فأرسل الشاليشية (١) وأمرهم برد العسكر.
قال : فجعل القاضي أبو الفضل بن الخشاب (٢) يقول له : يا مولانا ، لو ساق المولى خلفهم أخذناهم بأسرهم فإنهم منهزمون ، فقال له : يا قاضي كن عاقلا أتعلم أن في بلدكم ما يقوم بكم وبعسكري ، لو قدر والعياذ بالله علينا كسرة من العدو؟ فقال لا ، فقال : فما يؤمنا أن يكسرونا وندخل البلد ويقووا علينا ولا ننفع أنفسنا ، والله تعالى قد دفع شرهم فنرجع الى البلد ونقويه ، ونرتب أحواله وبعد ذلك نستعد لهم ويكون ما يقدره الله تعالى ، ونرجو إن شاء الله تعالى أننا نلقاهم ونكسرهم ، قال : ودخل البلد ورتب الأحوال وجلب إليه الغلال وأمن الناس واستقروا.
قال : وكان ذلك في آذار فجعل الناس يأخذون الحنطة والشعير ويبلونها بالماء ويزرعونها فاستغل الناس في تلك السنة مغلا صالحا. هذا معنى ما حدثني به والدي وعمي.
__________________
(١) حمله شارات وأعلام فكانوا يقومون بوظيفة مراقبة أمن الجيش ونظامه.
(٢) المتولي لامور الدفاع عن حلب آنذاك.