يفقد لديه الزيغ والإلحاد والفضول في الدين والعناد ، الفهم ملء إهابه ، والفضل حشو ثيابه ، شخص الأدب ماثلا ، ولسان البلاغة قائلا : جمال الأيام ، وزينة خواص الأنام ، وفارس الكلام ، والمقدم في النثار والنظام ، قد لزم بيته فما يرى متبرزا ، وألف داره وأصبح فيها معتمدا متعززا لا يؤنسه عن الوحشة إلّا الدفاتر ، ولا يصحبه في الواحدة إلا المحابر ، وقد اقتصر من دنياه على الزاوية ، وأنس الاعتزال والعافية ، وقصر همته على أدب يفيده ، وتصنيف يجيده ، وقريض ينظمه ، ونثر ينثره فيحكمه ، ومتعلّم يفضل عليه ، ومسترفد صعلوك يحسن إليه ، فهو عذب لمشرب ، عف المطلب ، نقي الساحة من (١٧٣ و) المآثم ، بريء الذمة من الجرائم يرجع الى نفس أمّارة بالخير ، بعيدة من الشر ، قد كفّ عن زخرف الدنيا ونضرتها ، وغضّ طرفه عن متاعها وزهرتها ، ونقىّ جيبه فأمن الناس عيبه ، قد استوى في النزاهة نهاره وليله ، فلم يتدنّس بفاحشة قط ذيله ، وعاد لإصلاح المعاد بإعداد الزاد ، واعتزل هذه الغدّارة ، وأفرج عن المراد.
وله دار حسنة يأويها ، ومعاش يكفيه ويمونه ، وأولاد أخ باق يخدمونه ويقرءون بين يديه ، ويدرسون عليه ، ويكتبون له ، ووراق برسمه مستأجر ، ثم ينفق على نفسه من دخل معاشه نفقة طفيفة ، وما يفضل عنه يفرقه على أخيه وأولاده واللائذين به الفقراء والقاصدين له من الغرباء ، ولا يقبل لأحد دقيقا ولا جليلا ، فقد استعمل قول النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا أتاه فقال : يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال : رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه. قال ثم من؟ قال : مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره (١) وما روي أن عقبة بن عامر قال : يا رسول الله ما النجاة؟ قال : أملك عليك لسانك وليسعك بيتك ، وابك على خطيئتك (٢) فقد اتخذ الله تعالى ذكره صاحبا ، وترك الناس جانبا.
فمضيت اليه مسلما ، وللاستسعاد به مغتنما ، فرأيت شيخا (١٧٣ ظ) حكمت
__________________
(١) انظر كنز العمال : ١١ / ٣٠٩٦٨.
(٢) المصدر نفسه : ٣ / ٧٨٥٤.