عقاب وظراب وجبال ، فأرسلت بأموال عظام ، ثم أمرت من يزن عينها الأولى ، فوجدوا فيها فسادا ، فأنشأت عينا أخرى إلى جنبها ، وأبطلت تلك العين ، فعملت عينها هذه بأحكم ما يكون من العمل ، وعظمت نيتها في ذلك ، فلم يزل العمّال يعملون ، حتى بلغوا ثنيّة خلّ (١) ، فإذا الماء لا يظهر على ذلك الجبل إلا بعمل شديد ، وعزم فظيع ، وضرب في الجبل ، فأمرت بالجبل فضرب فيه بالزبر (٢) ، وأنفقت في ذلك من الأموال ما لم يكن تطيب به نفس أحد ، حتى أجراها الله ـ تعالى ـ وأجرت فيها عيونا من الحلّ منها : عين مشاش (٣) ، واتخذت لها بركا تكون السيول إذا جاءت تجتمع فيها ، ثم أجرت لها عيونا من حنين ، واشترت حائط حنين ، فصرفت عينه إلى البركة ، وجعلت حائطه سدّا تجتمع فيه السيول ، فأهل مكة يشربون من مائها إلى يومنا هذا (٤).
وكان الناس يستقون من هذه البركة الكبيرة التي بأعلى مكة ، حتى كانت سنة عشر ومائتين ، فكتب صالح بن العباس إلى أمير المؤمنين المأمون يستأذنه في عمل البرك الصغار التي في فجاج مكة ، وأن يكون ذلك منه ، فكتب إليه يأمره أن يتخذ له بركا في الفجاج خمسا لئلا يتعنّى أهل المسفلة وأهل الثنيّة (٥) ، وأجيادين ، والوسط ، إلى بركة أم جعفر بالمعلاة ، فأجرى من بركة
__________________
(١) ستأتي في المباحث الجغرافية ، وتقع قبيل أعلام الحرم في طريق الطائف على اليمانية.
(٢) الزبر : جمع زبرة ، وهي : القطعة الضخمة من الحديد. يريد قضبان الحديد الضخمة. تاج العروس ٣ / ٢٣١.
(٣) عين مشاش ، تسمّى اليوم (عين الشرائع) أو (عين حنين). وهي اليوم لا تسير إلى مكة ، بل يزرع الناس عليها هناك. وتبعد عين حنين (٣٦) كلم عن المسجد الحرام إلى الشرق. معالم مكة التاريخية ص : ٨٨.
(٤) الأزرقي ٢ / ٢٣٠ ـ ٢٣١.
(٥) هي الثنية السفلى ، التي يسن الخروج من مكة عليها ، وتسمّى (كدى) بضم الكاف والقصر. وتسمّى اليوم : الشبيكة أو (ريع الرسّام).