هي أنه لم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال : إن معي طائفة من العلم ليست معك فلا تستنكف ، وهب أنا في مفازة وعندي معرفة بالدلالة دونك (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) مستويا مؤدّيا إلى المقصود وهو صلاح المعاش والمعاد. استدل أرباب التعليم بالآية بأنه لا بد من الاتباع. وأجيب بأنه لا يلزم من اتباع النبي اتباع غيره. والإنصاف أن هذا الطريق أسهل.
ثم أكد المعنى المذكور بنصيحة أخرى زاجرة عما هو عليه فقال : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) أي لا تطعه فإن عبادة الأصنام هي طاعة الشيطان. ثم أسقط حصة نفسه إذ لم يقل إن الشيطان عدوّ لبني آدم بل قدّم حق ربه فقال : (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) حين ترك أمره بالسجود عنادا واستكبارا لا نسيانا وخطأ ، نبهه بهذه النصيحة على وجود الرحمن ثم على وجود الشيطان ، وأن الرحمن مصدر كل خير ، والشيطان مظهر كل شر بدلالة الموضوع اللغوي ، وهذا القدر كاف من التنبيه لمن تأمل وأنصف. ثم بين الباعث على هذه النصيحة فقال : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ) وفيه مع التخويف من سواء العاقبة أنواع من الأدب إذ ذكر الخوف والمس ونكر العذاب. قال الفراء : معنى أخاف أعلم. والأكثرون على أنه محمول على ظاهره لأن إبراهيم عليهالسلام لم يكن جازما بموت أبيه على الكفر وإلا لم يشتغل بنصحه. والخوف على الغير ظن وصول الضرر إلى ذلك الغير مع تألم قلبه من ذلك كما يقال : أنا خائف على ولدي. وذكروا في الولي وجوها منها : أنه إذا استوجب عذاب الله كان مع الشيطان في النار والمعية سبب الولاية أو مسببها غالبا ، وإطلاق أحدهما على الآخر مجاز. وليس هناك ولاية حقيقة لقوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [الزخرف : ٦٧] (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) [إبراهيم : ٢٢] ومنها أن حمل العذاب على الخذلان ومنها أن الولي بمعنى التالي والتابع قال جار الله : جعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أتباعه وأوليائه أكبر من نفس العذاب ، لأن ولاية الشيطان في مقابلة رضا الرحمن وقال عز من قائل : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢] وإذا كان رضوان الله أكبر من نعيم الجنة فولاية الشيطان أعظم من عذاب النار. ثم إن الشيخ قابل ملاطفات إبراهيم بالفظاظة والغلظة قائلا (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) فقدم الخبر على المبتدأ إشعارا بأنه عنده أعنى. وفي هذا الاستفهام ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته. وفي قوله : (يا إِبْراهِيمُ) دون أن يقول : «يا بني» في مقابلة (يا أَبَتِ) تهاون به كيف لا وقد صرح بالإهانة قائلا (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) باللسان أي لأشتمنك أو باليد أي لأقتلنك وأصله الرمي بالرجام. ثم هاهنا إضمار أي