التأويل : لما تبين لملك الروح قدر يوسف القلب وأمانته وصدقه وحسن استعداده سعى في خلاصه من سجن صفات البشرية ليكون خالصا له في كشف حقائق الأشياء ، ولم يعلم أنه خلق لصلاح جميع رعايا مملكة روحانية وجسمانية. كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن في جسد بني آدم مضغة : إن صلحت صلح بها سائر الجسد وإن فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب» (١). وللقلب اختصاص آخر بالله دون سائر المخلوقات قال سبحانه : «لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن». (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ) أرض الجسد فإن لله تعالى في كل عضو من الأعضاء خزانة من اللطف إن استعمله الإنسان فيما خلق ذلك العضو لأجله ، وخزانة من القهر إن استعمله في ضده (إِنِّي حَفِيظٌ) للخزائن (عَلِيمٌ) باستعمالها فيما ينفعها دون ما يضرها (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا) فيه أن إصابة اللطف من تلك الخزائن دون القهر موكولة إلى مشيئة الله تعالى. (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) وهم الأوصاف البشرية (فَعَرَفَهُمْ) يوسف القلب لأنه ينظر بنور الله (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) لبقائهم في الظلمة وحرمانهم عن النور. (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ) يشير إلى أن يوسف القلب لما التجأت إليه الأوصاف البشرية بدل صفاتها الذميمة النفسانية بالصفات الحميدة الروحانية ، فاستدعى منهم إحضار بنيامين السر لأن السر لا يحضر مع القلب إلا بعد التبديل المذكور ، وإذا حضر معه يوفى بأوفى الكيل ما لم يوف إلى الأوصاف البشرية (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) فيه أن البضاعة كل عمل من الأعمال البدنية التي تحيا بها الأوصاف البشرية إلى حضرة يوسف مردودة إليها ، لأن القلب مستغن عنها. وإنما الأوصاف البشرية محتاجة إليها لأن النفس تتأدب وتتزكى بها كما قال تعالى (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) [الإسراء : ٧] وأن تربية القلب بالأعمال القلبية كالنيات الصالحة ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم : نية المؤمن خير من عمله. وكالعزائم الخالصة والأخلاق الحميدة والتوكل والإخلاص. ثم قال : كمال تربية القلب بالتخلية وتجلي صفات الحق وصفات ذاته (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) من صفة الأمارية إلى المأمورية والاطمئنان فيستحق بجذبة (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] (رُدَّتْ إِلَيْنا) فوائده ما ترجع إلى يوسف القلب (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) الأعضاء والجوارح نحصل لهم قوّة زائدة على الطاعة بواسطة رسوخ الملكة له (وَنَحْفَظُ أَخانا) من الحوادث النفسانية والوساوس الشيطانية (وَنَزْدادُ) بواسطة حضور السر عند القلب (كَيْلَ بَعِيرٍ) من الفوائد الربانية (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) لمن يسره الله (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) مع
__________________
(١) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب : ٣٩. مسلم في كتاب المساقاة حديث : ١٠٧. ابن ماجه في كتاب الفتن باب : ١٤. الدارمي في كتاب البيوع باب : ١.