فيما حاولوه من
التحقيق أولا والشرح ثانيا. وإنا لندرك أنه لم يكن يسع أحدا من هؤلاء أن يصنع «للنهج»
خيرا مما صنع ، لأن جمهرة المحققين في أيامهم كانوا إذا وجدوا مخطوطة نشروها على
حالها ، وأضافوا إليها ما وقع إليهم من الحواشي والشروح ، لا يجشّمون أنفسهم عناء
البث عن النسخ المختلفة ، ومقابلة بعضها ببعض ، ضبطا للنص ، وتصحيحا للأصل ، واختيارا
للأدق الأكل , وانسجاما مع أمانة العلم ومنهجية التحقيق.
وإن علينا ـ مع ذلك ـ أن نكبر ما قدمه
الإمام محمد عبده من خدمة جلى للفكر العربي الاسلامي يوم نشر «نهج البلاغة» وشرحه
بإيجاز ، مهما تكن الهنات التي أخذها عليه غيرنا أو نأخذها نحن اليوم عليه ، فله
يرتد الفضل في انتشار هذا الكتاب العظيم الذي بات لا يجهله أحد من الأدباء
والمتأدبين. وحسب الشيخ محمد عبده فخرا أن عشرات الطبعات التي نشرت شرفا وغربا ظلت
إلى عهد قريب تستند إلى النص الذي أثبته ، وتكتفي بالشرح الذي اقتبسه وانتقاه .
على أن «نهج البلاغة» ـ لنفاسته ـ جدير
بأكثر مما أتيح له حتى اليوم من التحقيق والتدقيق. ولقد طلع علينا منذ سنوات قلائل
الأستاذ البحاثة المفضال محمد أبو الفضل إبراهيم بطبعة علمية ممتازة لشرح ابن أبي
الحديد في عشرين جزءا ، رجع فيها إلى نسخ مخطوطة مصورة عن أصولها المحفوظة في
مكتبة المتحف البريطاني ، ومكتبة الفاتيكان ، والمكتبة الظاهرية ، وبعض المكتبات
الأخرى العامة والخاصة ،
ولم تكن تلك المخطوطات المختلفة كلها كاملة ، ولكنها بمجموعها كانت كافية لتقديم
أفضل صورة ممكنة «للنهج» متنا وشرحا.
وإفاضتنا في الثناء على هذه الطبعة
الأخيرة لا ينبغي أن تحول دون تقريرنا للحقيقة التالية : وهي أن الغرض الذي رمي
إليه الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم هو تحقيق شرح «النهج» وليس تحقيق «النهج» ذاته.
أما الغاية التي نتصدى لها ، والتي يؤنس جميع الأدباء حاجة إليها ، فهي ضبط مجموعة
النصوص التي اختارها الشريف الرضي من كلام الإمام ضبطا
_____________________