فإذن كل واحد منهما يحتاج فى وجوده إلى أمر من خارج متقدم عليهما ، إذ لا تقدم لأحدهما على الآخر ، إذ فرضناهما متكافئين. والعلة يجب أن تكون متقدمة. وإن كان أحدهما علة والآخر معلولا فإنه يكون أحدهما واجبا بذاته ، والآخر وجوده مستفاد منه. وبهذا نعلم أن واجب الوجود بذاته لا أجزاء له ، فإن الأجزاء سبب للجملة ، فإذن لا تعلق لواجب الوجود بشيء.
وجود الأجسام وأعراضها ، وبالجملة وجود العالم المحسوس ، ظاهر. وجميع هذه الموجودات وجودها خارج عن ماهيته ، إذ جميع هذه ماهيات فى المعقولات العشر ، وكلها ممكنة الوجود فى ذواتها. قوام الأعراض بالأجسام ، والأجسام قابلة للتغيرات. وأيضا فإنها مركبة من مادة وصورة ، وكل واحد منها جزء للجسم. والمادة لا قوام لها بالفعل ، وكذلك الصورة وكل ما كانت هذه صفاته ـ أعنى التغير والتجزؤ. واجتماع جملتها من الأجزاء وحصول معنى ما بالقوة ـ فهو ممكن الوجود. فكل ما هو ممكن الوجود فإنه يخرج إلى الفعل بأمر من خارج ، ويكون تعلق وجوده بذلك الأمر ، وهذا هو معنى الحدوث ، أعنى أن يصير الشىء أيس ، بعد أن كان ليس ، بعدية بالذات ، أى أنه متأخر الوجود عن وجود علته. وقد بينا أن جميع العلل تنتهى إلى واجب الوجود بذاته ـ وأن واجب الوجود بذاته واحد ، فيجب أن يكون للعالم مبدأ لا يشبهه ، فوجود العالم منه. ووجود ذلك المبدأ يكون واجبا بذاته ، بل تكون حقيقته الوجود المحض ، أى لا يخالطه معنى ما بالقوة وما سواه يكون وجوده منه ، مثل الشمس التي هى مضيئة بذاتها ، وما سواها مضىء بها ، والضوء عارض منها. وهذا المثال يصح لو كانت الشمس نفس الضوء ، ولم يكن للضوء موضوع. ولكن الأمر بخلاف ذلك ، فإن ضوء الشمس له موضوع ، وواجب الوجود بذاته لا موضوع له ، بل هو قائم بذاته.
المعلوم بالحقيقة هو نفس الصورة المنتقشة فى ذهنك. وأما الشىء الذي تلك الصورة صورته ، فهو بالعرض معلوم. فالمعلوم هو العلم ، وإلا كان يتسلسل إلى ما لا نهاية.
إن السبب فى أن يكون الشىء معقولا ، هو بأن يتجرد عن المادة ، وكذلك السبب في أن يصير الشىء عاقلا هو أن يتجرد عن المادة ، أعنى العقل. فإذا حصلت صورة مجردة عن المادة ، لصورة مجردة عن المادة ، كان ذلك النحو من الحصول عقلا ، والصورة الإنسانية إذا تجردت عن المادة ، واستحضرتها نفسك ، كانت نفسك ، على ما ذكر فى «كتاب النفس» ، عاقلة للمعقول من تلك الصورة الإنسانية. وبالجملة