يَشاءُ أَن يَنْسَى ، قالَ : وهذا القولُ عنْدِي غيْرُ جائِزٍ ، لأنَّ الله تعالى قد أَخْبَر النبيَّ ، صلىاللهعليهوسلم ، في قولِه : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا) (١) ، أنَّه لا يَشاءُ أَن يَذْهَبَ بما أَوْحَى به إلى النبيِّ ، صلىاللهعليهوسلم ، قالَ وقولهُ : (فَلا تَنْسى) ، أَي فلسْتَ تَتْرُك (إِلّا ما شاءَ اللهُ) أَن يَتْرُك ، قالَ : ويجوزُ أَن يكونَ (إِلّا ما شاءَ اللهُ) ممَّا يَلْحَق بالبَشَرِيَّة ثم يَذْكُر بعْدُ ليسَ أنَّه على طرِيقِ السّلْب للنبيِّ ، صلىاللهعليهوسلم شيئاً أُوتِيَه مِن الحِكْمةِ ، قالَ : وقيلَ في قولهِ تعالى : (أَوْ نُنْسِها) قولٌ آخَرُ ، وهو خَطَأٌ أَيْضاً ، ونَتْرُكُهَا ، وهذا إنَّما يقالُ فيه نَسِيت إذا تَرَكْت ، ولا يقالُ أُنْسِيت تَرَكْت ، قالَ : وإنَّما مَعْنى (أَوْ نُنْسِها) أَي نَأْمُرْكُم بتَرْكِها.
قال الأزْهري : وممَّا يقوِّي هذا ما رُوِي عن ثَعْلَب عن ابنِ الأعْرابي أنَّه أَنْشَدَه :
إنَّ عليَّ عُقْبةً أَقْضِيها |
|
لَسْتُ بناسِيها ولا مُنْسِيها (٢) |
قال بناسِيها بتارِكِها ، ولا مُنْسِيها : ولا مُؤخِّرها ، فوافَقَ قولُ ابن الأعْرابي قولَه في النَّاسِي إنَّه التَّارِكِ لا المُنْسِي ، واخْتَلَفا في المُنْسِي.
قالَ الأزْهرِي : وكأنَّ ابنَ الأعْرابي ذَهَبَ في قولِه : ولا مُنْسِيها إلى تَرْكِ الهَمْز مِن أَنْسَأْتُ الدَّيْن إذا أَخَّرْته ، على لُغَةِ مَنْ يُخَفِّفُ الهَمْزةَ.
هذا ما ذَكَرَه أَهْلُ اللغةِ في النِّسْيان والإنْساءِ. وأَمَّا إطْلاقُ المُنْسِي على الله تعالى هل يَجوزُ أَو لا ، فقد اخْتَلَفَ فيه أَهْلُ الكَلام ، وغايَةُ مَن احْتَج بعدَم إطْلاقِه على الله تعالى أنَّه خِلافُ الأدَبِ ، وليسَ هذا محلُّ بَسْطه ، وإنَّما أَطَلْتُ الكَلامَ في هذا المجال ، لأنَّه جَرَى ذِكْرُ ذلكَ في مجْلِسِ أَحَدِ الأُمرَاءِ في زمانِنا فحصَلَتِ المُشاغَبَةُ مِن الطَّرفَيْن وأَلَّفُوا في خُصوصِ ذلكَ رسائِلَ ، وجَعَلوها للتَّقَرُّبِ إلى الجاهِ وسائِلَ ، والحَقُّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَع وهو أَعْلَم بالصَّواب. والنِّسْيُ بالكسر ويُفْتَحُ ، وهذه عن كُراعٍ ما نُسِيَ.
وقالَ الأخفش هو ما أُغْفِلَ مِن شيءٍ حَقِيرٍ ونُسِيَ.
وقال الزجَّاج : هو الشيءُ المَطْروحُ لا يُؤْبَه له ؛ قال الشَّنْفَرَى :
كأنَّ لها في الأرضِ نِسْياً تَقُصُّه |
|
على أمِّها أَو إن تُخاطِبْكَ تَبْلَتِ (٣) |
وقال الرَّاغبُ : النِّسْيُ أَصْلُه ما يُنْسَى كالنّقْض (٤) لمَا يُنْقَضُ ، وصارَ في التَّعارُفِ اسْماً لمَا يقل الاعْتِدادُ به ، ومنه قولهُ تعالى حِكايَةً عن مَرْيم : وكُنْت نِسْياً مَنْسِيًّا (٥) ، وأَعْقَبَه بقولِه : مَنْسِيًّا لأنَّ النِّسْيَ قد يقالُ لمَا يقل الاعْتِدادُ به وإن لم يُنْسَ ، قالَ : وقُرِىءَ نَسْياً ، بالفَتْح (٦) ، وهو مَصْدَرٌ مَوْضوعٌ مَوْضِع المَفْعول.
وقال الفرَّاء : النِّسْيُ ، بالكسر والفَتْح ، ما تُلْقِيهِ المرأَةُ من خِرَقِ اعْتِلالِها ، مِثْلَ وتْرٍ ووَتْرٍ ، قالَ : ولو أَرَدْتَ بالنِّسْي مَصْدَر النِّسْيان لجازَ ، أَي في الآيَةِ.
وقال ثعْلَب : قُرِىءَ بالوَجْهَيْن ، فمَنْ قَرَأَ بالكَسْر فعَنَى خِرَقَ الحَيْض التي يُرْمَى بها فتُنْسَى ، ومَنْ قَرَأَ بالفتح فمعْناهُ شيئاً مَنْسِيًّا لا أُعْرَفُ.
وفي حديثِ عائِشَةَ : «وَدِدْتُ أَنِي كُنْتُ نِسْياً مَنْسِيًّا» ، أَي شيئاً حَقِيراً مُطَّرَحاً لا يُلْتَفَتُ إليه.
والنَّسِيُّ ، كغَنِيٍّ : مَنْ لا يُعَدُّ في القوْمِ لأنَّه مَنْسِيٌّ.
وأيْضاً : الكثيرُ النِّسْيانِ يكونُ فَعِيلاً وفَعُولاً وفَعِيلٌ أَكْثَر لأنَّه لو كانَ فَعُولاً لقيلَ نَسُوّ أيْضاً.
كالنَّسْيانِ ، بالفتح ؛ نقلَهُ الجَوْهرِي.
__________________
(١) سورة الإسراء ، الآية ٨٦.
(٢) اللسان والتهذيب.
(٣) المفضلية ٢٠ البيت ٩ برواية :
على أمها وإن تكلمك تبلتِ
والمثبت كرواية اللسان والصحاح وفيهما «وإن» والمقاييس ٥ / ٤٢٢ كرواية المفضليات ، والتهذيب.
(٤) عن المفردات ، وبالأصل : كالنفض لما ينفض.
(٥) سورة مريم ، الآية ٢٣.
(٦) في المفردات ضبط قلم : «نِسِيًّا».