ومِثْلُه قَوْلُهم : ضِقْتُ به ذَرْعاً وطِبْتُ به نَفْساً ، والمعْنَى : ضاقَ ذَرْعِي به وطابَتْ نَفْسِي به ، انتَهَى.
* قُلْتُ : وهذا القَوْلُ أَنْكَرَه النّحويُّونَ ، وقالوا : إِنَّ المُفَسِّراتِ نَكِرَاتٌ ولا يَجوزُ أَن تُجْعلَ المَعارِفُ نَكِرَاتٍ.
أَو نَسَبَه إِليه ؛ هذا القَوْلُ فيه إِشارَةٌ إِلى قَوْلِ الأَخْفَش ، فإِنَّه قالَ : أَهْلُ التَّأْوِيل يَزْعمونَ أَنَّ المَعْنَى سَفَّه نَفْسَه ، أَي بالتَّشْديدِ بالمعْنَى المذْكُور ؛ ومنه قَوْلُه : إِلَّا مَنْ سَفِهَ الحَقَّ ، معْناهُ : مَنْ سَفَّه الحقَّ.
وقالَ يونُسُ النّحويُّ : أُراها لُغَةٌ ذَهَبَ يونُسُ إلى أَنَّ فَعِلَ للمُبالَغَةِ ، فذَهَبَ في هذا مَذْهَبَ التَّأْوِيلِ ، ويَجوزُ على هذا القَوْلِ سَفِهْتُ زيْداً بمعْنَى سَفَّهْتُ زيْداً.
أَو أَهْلَكَهُ ، فيه إِشارَةٌ إِلى قَوْلِ أَبي عبيدَةَ فإِنَّه قالَ : معْنَى سَفِهَ نفْسَه أَهْلَكَ نَفْسَه وأَوْبَقَها ، وهذا غَيْرُ خارِجٍ مِن مَذْهَبِ يونُسَ وأَهْل التّأْوِيل.
وقالَ بعضُ النّحويِّين في قوْلِه تعالى : (إِلّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (١) ، أَي في نَفْسِه أَي صارَ سَفِيهاً ، إِلَّا أَنَّ «في» حُذِفَتْ كما حُذِفَتْ حُرُوفُ الجَرِّ في غيرِ مَوْضِعٍ.
وقالَ الزَّجَّاجُ : القَوْلُ الجَيِّدُ عنْدِي في هذا : أَنَّ سَفِهَ في مَوْضِعِ جَهِلَ ، والمعْنَى ، واللهُ أَعْلَم ، إِلَّا مَنْ جَهِلَ نَفْسَه ، أَي لم يُفَكِّرْ في نَفْسِه فوَضَعَ سَفِهَ في مَوْضِعِ جَهِلَ ، وعُدِّيَ كما (٢) عُدِّيَ.
قالَ الأَزْهرِيُّ : وممَّا يُقوِّي قوْلَ الزجَّاجِ الحدِيثُ : «إِنَّ الكِبْرَ أَنْ تَسْفَهَ الحَقَّ وتَغْمِطَ الناسَ» ، فجعَلَ سَفِهَ واقِعاً مَعْناه أَنْ تَجْهَلَ الحَقَّ فلا تَراهُ حَقّاً.
ويقالُ : سَفِهَ فلانٌ رأْيَه إِذا جَهِلَهُ وكانَ رأْيُه مُضْطرباً لا اسْتِقامَةَ له.
وفي الحدِيثِ : «إِنَّما البَغْيُ مِنْ سَفِهَ الحقَّ» ، أَي مَنْ جَهِلَه ، وقيلَ : مَنْ جَهِلَ نَفْسَه ، وفي الكَلامِ مَحْذوفٌ تَقْديرُه إِنَّما البَغْيُ فِعْلُ مَنْ سَفِهَ الحقَّ. ورَوَاهُ الزَّمَخْشريُّ : مِن سَفَهِ الحَقِّ ، على أَنَّه اسمٌ مُضافٌ إِلى الحقِّ ، قالَ : وفيه وَجْهان : أَحَدُهما : أَنْ يكونَ على حَذْفِ الجَارِ وإيصالِ الفِعْل كأَنَّ الأصْلَ سَفِهَ على الحقِّ ، والثاني : أَنْ يَضْمَنَ معْنَى فعل متعدِّ كجَهِلَ ، والمعْنَى الاسْتِخْفاف بالحقِّ وأَنْ لا يَراهُ على ما هو عليه مِنَ الرُّجْحانِ والرَّزانَةِ.
ومِن المجازِ : سَفِهَتِ الطَّعْنَةُ سَفْهاً : أَسْرَعَ منها الدَّمُ وجَفَّ (٣) ؛ كما في الأساسِ.
ومِن المجازِ : سَفِهَ الشَّرابَ سَفْهاً : إذا أَكْثَرَ منه فلم يَرْوَ.
وحَكَى اللّحْيانيُّ : سَفِهَ الماءَ شَرِبَه بغيرِ رِفْقٍ.
وسَفِهَ ، كفَرِحَ وكَرُمَ ، علينا ؛ الأوْلى أَنْ يقولَ : سَفِهَ علينا ، كفَرِحَ وكَرُمَ ؛ جَهِلَ ، كتَسافَهَ ، فهو سَفِيهٌ ، ج سُفَهاءُ وسِفاهٌ ، بالكسْرِ ، وهي سَفِيهَةٌ ، ج سَفِيهاتٌ وسَفائِهُ وسَفَّهٌ ، كسُكَّرٍ ، وسِفاهٌ ، بالكسْرِ.
وقَوْلُه تعالَى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) (٤).
قالَ اللّحْيانيُّ : بَلَغنا أَنَّهم النِّساءُ والصِّبْيان الصِّغارُ لأنَّهم جُهَّالٌ بموْضِعِ النّفَقةِ.
قالَ : ورُوِي عن ابنِ عبَّاسٍ ، رضِيَ اللهُ تعالى عنهما ، أَنّه قالَ : النِّساءُ أَسْفَهُ السُّفَهاءِ.
وقالَ الأزْهرِيُّ : سُمِّيت المرْأَةٌ سَفِيهَة لضعفِ عَقْلِها ، ولأنَّها لا تُحْسِنُ سِياسَةَ مالِها ، وكَذلِكَ الأَوْلاد ما لم يُؤْنَس رُشْدُهم.
وقوْلُه تعالَى : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) (٥) ؛ السَّفِيهُ : الخَفِيفُ العَقْل.
وقالَ مُجاهِد : السَّفِيهُ : الجاهِلُ ، والضَّعِيفُ : الأحْمقُ.
قالَ ابنُ عَرَفَة : الجاهِلُ هنا هو الجاهِلُ بالأَحْكامِ لا
__________________
(١) البقرة ، الآية ١٣٠.
(٢) أي على المعنى ، كما يفهم من عبارة التهذيب.
(٣) في الأساس : وخفّ.
(٤) النساء ، الآية ٥.
(٥) البقرة ، الآية ٢٨٢.