وقد نَزُهَ المَكانُ ، ككَرُمَ ، وضَرَبَ ، نَزاهَةً ونَزاهِيَةً ، بالتّخْفِيفِ ، واقْتَصَرَ الزَّمَخْشريُّ على حَدّ كَرُمَ.
والذي في الصِّحاحِ : نَزِهَتِ الأرضُ ، بالكسْرِ ؛ ومثْلُه في المُحْكَمِ والمِصْباحِ.
قالَ شيْخُنا : وهو الصَّوابُ كما يُؤيّدُه المَصْدَرُ والصِّفَةُ.
* قُلْتُ : أَمَّا المَصْدَران فيُؤَيِّدَان أنَّه مِن حَدِّ كَرُمَ كما ذَكَرَه المصنِّفُ ، وكَذلِكَ رَفُهَ رَفاهَةً ورَفاهِيَةً ، أَو مِن حَدِّ سَمِعَ ككَرِهَ كَراهَةً وكَراهِيَةً.
وفي كَلامِ بعضِهم ما يدلُّ أَنَّه نَزُهَ الرَّجُلُ ، ككَرُمَ ، نَزاهَةً : إذا تَباعَدَ عن كلِّ مَكْرُوهٍ فهو نَزِيهٌ.
وأَمَّا نَزِهَ المَكانُ والأرضُ فليسَ إلَّا كفَرِحَ ، فتأَمَّلْ.
واسْتِعْمالُ التَّنَزُّهِ في الخُروجِ إلى البَساتينِ والخُضَرِ والرِّياضِ غَلَطٌ قَبيحٌ. وأَصْلُ هذا الكَلام عن ابنِ السِّكِّيت لأنَّه قالَ : وممَّا يَضَعُهُ الناسُ في غيرِ مَوْضِعِهِ قَوْلهم : خَرَجْنا نَتَنَزَّه إذا خَرَجُوا إلى البَساتينِ ، قالَ : وإنَّما التَّنَزُّه التَّباعُدُ عن الأَرْيافِ والمِياهِ ؛ ومنه قيلَ : فلانٌ يَتَنَزَّهُ عن الأَقْذارِ ويُنَزِّهُ نَفْسَه عنها ، أَي يُباعِدُها عنها ؛ هذا نَصُّ الصِّحاحِ.
وفي المُحْكَم : تَنَزَّهَ الإنْسانُ خَرَجَ إلى الأرضِ النَّزِهَةِ ، والعامَّةُ يَضَعُونَ الشيءَ في غيرِ مَوْضِعِه ويَغْلطُونَ فيَقُولونَ : خَرَجْنا نَتَنَزَّهُ إذا خَرَجُوا إلى البَساتينِ ، فيَجْعلُونَ التَّنزُّهَ الخُروجَ إلى البَساتِينِ والخُضَرِ والرِّياضِ ، وإنَّما التَّنزُّهُ التَّباعُدُ عن الأرْيافِ والمِياهِ حيثُ لا يكونُ ماءٌ ولا نَدًى ولا جَمْعُ ناسٍ ، وذلِكَ شِقُّ البادِيَةِ ؛ ومنه قيلَ : فلانٌ يَتَنَزَّه عن الأَقْذارِ ويُنَزِّهُ نَفْسَه عنها ، أَي يُباعِدُ نَفْسَه عنها.
قالَ شيْخُنا نَقْلاً عن الشّهاب : لا يَخْفى أَنَّ العادَةَ كَوْن البسَاتينِ في خارِجِ القُرَى غالِباً ولا شكَّ أنَّ الخُروجَ إليها تَباعُدٌ ، فغايَةُ ما يَلْزم كَوْنه حَقِيقَة قاصِرَة فالعجبُ مِن التَّغْلِيطِ في ذلِكَ مع تَسْلِيمِ كَوْنِ التَّنزُّهِ التَّباعُدُ ، على أَنَّ المصنِّفَ فَسَّرَ التَّنَزُّهَ بالتَّباعُدِ مُطْلقاً ولم يقيِّدْه كما تَرَى ، فتَغْلِيطُه الناسَ عَجِيبٌ بِلا مراء ، انتَهَى.
* قُلْتُ : وفي الأساسِ : وخَرَجُوا يَتَنَزَّهُونَ يَطْلُبُونَ الأماكِنَ النَّزِهَةَ ، انتَهَى ، أَي البَعِيدَة عن المِياهِ وحيثُ أنَّ التَّنَزُّهَ جعل التَّباعُد عن الأريافِ والمِياهِ حيثُ لا يكونُ ماءٌ ولا نَدًى ولا جَمْعُ ناسٍ ، كما هو في المُحْكَم ، فاسْتِعْمالُه في الخُروجِ إلى البَساتينِ والخُضَرِ التي مادَّةُ حَياتِها غَمَق (١) المِياهِ والأنْدِيَة ومن لازَمَها الأُوبية وجَمْع النَّاس اسْتِعْمالٌ بالضِّدِّ ، فهو حَقِيقٌ بالتَّغْلِيطِ فطنَ له ابنُ السِّكِّيت وغَفَل عنه الشَّهاب ، يظهرُ ذلكَ بالتَّأَمُّل الصَّادِقِ.
وتَفْسِيرُ المصنِّفِ التَّنزُّه بالتَّباعُد صَحِيحٌ ، وهو قد يكونُ بالتَّباعُدِ عن المِياهِ ، وقد يكونُ عن الأَقْذارِ والأسْواءِ ، وقد يكونُ عن المذامِّ ، فإذا قالوا : خَرَجُوا يَتَنَزَّهُونَ ، أَرادُوا التَّباعُدَ عن الأريافِ والمَواضِعِ النَّدِيَّة ، وإذا قالوا في الرَّجُلِ : هو يَتَنَزَّهُ أَرادُوا به البُعْدَ عن الأقذارِ أَو المَذامِّ ، وإذا أَطْلَقُوه على البارِي سبحانه ، أَرادُوا به التَّقْدسَ عن الأنْدادِ وعمَّا لا يَجوزُ عليه من النَّقائِصِ ، فتأَمَّل ذلِكَ.
ويلِي تَقْرير الشَّهاب ما قالَهُ ملا عليّ في نامُوسِه : هذا غَيْرُ صَحيحٍ لأنَّ مادَّةَ الاشتِقاقِ فيه صَرِيح ، فالبُستانُ مَكانٌ نَزِهٌ والخُرُوجُ إليه تَباعُدٌ عن مَكْرُوهٍ في زَمانِ هَمِّ أَو خاطِرٍ مَغْمومٍ ، أَو مَكان غَيْر مُلائمٍ وإخْوان سُوءٍ وهَواء مُتَعَفِّن وأَمْثال ذلِك قُلْتُ : قَوْلُه فالبُسْتانُ مَكانٌ نَزِهٌ غَيْرُ صَحِيحُ ، لأنَّ النَّزِهَ فَسَّرُوه بالبَعِيدِ عن المِياهِ ، والبُسْتان لا يكونُ بَعيداً عن الماءِ بل إنَّما مادَّتُهُ كَثْرَةُ الماءِ ، وقَوْلُه : وهَواء مُتَعَفِّن هذا غَيْرُ صَحيحٍ أَيْضاً لأنَّ تَعَفُّنَ الهَواءِ في الأماكِنِ النَّدِيَّةِ أَكْثَر ، كما قالَهُ الأطبَّاء.
رَدَّ عليه شيْخُنا فقالَ : هو كَلامٌ غَيْرُ مُقْنِعٍ وسَجَع كسَجَع الكُهَّان وتَعْرِيفٌ للتَّنزُّهِ بِما يَتَنَزَّهُ عنه الصِّبْيان ، ولا يَتَوَقَّفُ على ما ذُكِرَ مِن المُوجِبَات ؛ ثم قالَ : وكَلامُ الشَّهاب أَقْرَبُ إلى الصَّوابِ ، وقد أَوْضَحَه في شفاءِ الغعليلِ بأَزْيَد ممَّا مَرَّ.
* قُلْتُ : وقد عملت أَنَّه مُخالِفٌ لكَلامِ الأئِمَّةِ ،
__________________
(١) عن اللسان ، وبالأصل بالعين المهملة.