والسَّكِينَةُ ، كسَفِينَةٍ ، والسِّكِّينَةُ ، بالكسْرِ مشدَّدةً.
* قلْتُ : الذي حُكِي عن أَبي زيْدٍ بالفتْحِ مشدَّدَة ، ولا نَظِير لها ، إذ لا يُعْلَم في الكَلامِ فِعِّيلَة ؛ وحُكِي عن الكِسائيّ السِكِينَة بالكسْرِ مخَفَّفَة ، كذا في تَذْكَرَةِ أَبي عليٍّ ، فالمصنِّفُ أَخَذَ الكَسْرَ مِن لُغَةٍ والتَّشدِيدَ مِن لُغَةٍ فَخَلَطَ بَيْنهما وهذا غَرِيبٌ ، تأَمَّل ذلِكَ ؛ الطُّمَأْنينَةُ والوَداعُ والقَرارُ والسُّكونُ الذي يُنْزِلُه الله تعالَى في قَلْبِ عبْدِه المُؤْمنِ عنْدَ اضْطِرابِه من شِدَّةِ المُخاوِفِ ، فلا يَنْزعِجُ بعْدَ ذلِكَ لمَا يرد عليه ويُوجِبُ له زِيادَة الإيمانِ وقوَّة اليَقِينِ والثَّباتِ ، ولهذا أَخْبَر سُبْحانه وتعالَى عن إنْزَالِها على رَسُولِه وعلى المُؤْمِنِين في مَواضِع القَلَقِ والاضْطِرابِ كيَوْم الغارِ ويَوْم حُنَيْن ، وقد قُرِئَ بهما أَي بالتَّخْفيفِ والتَّشْديدِ مع الكسْرِ كما هو مُقْتَضى سِياقِه ، والصَّوابُ أَنَّه قُرِئَ بالفتْحِ والكسْرِ ، والأَخيرَةُ قِرَاءَة الكِسائيّ ، فراجِعْ ذلِكَ.
وفي البَصائِرِ : ذَكَرَ اللهُ تعالَى السَّكِينَةَ في ستَّةِ مَواضِعَ مِن كتابِهِ :
الأوَّل : قوْلُه تعالَى : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ) فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (وَبَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) (١).
الثَّاني : قوْلُه تعالَى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) (٢).
الثَّالثُ : قوْلُه تعالَى : (إِلّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) (٣). الرابعُ : قوْلُه تعالَى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٤).
الخامسُ : قوْلُه تعالَى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (٥).
السادس : قوْلُه تعالَى : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٦) ؛ قالَ : وكانَ بعضُ المشايخِ الصَّالِحين إذا اشْتَدَّ عليه الأَمْرُ قرَأَ آياتَ السّكِينَةِ فيرى لها أَثراً عَظِيماً في سكونٍ وطُمَأْنِينةٍ.
وقالَ ابنُ عبَّاس ، رضِيَ الله تعالَى عنه : كلُّ سَكِينةٍ في القُرآنِ فهي طُمَأْنِينةٌ إلَّا في سورَةِ البَقَرَةِ ، واخْتَلفُوا في حَقيقَتِها هل هي قائِمَة بنفْسِها ، أَو معنى على قَوْلَيْن وعلى الثاني فقالَ الزجَّاجُ : أَي فيه ما تَسْكُنُونَ به إذا أَتاكُم.
وقالَ عطاءُ بنُ أَبي رباحٍ : هي ما تَعْرفُونَ مِن الآياتِ فتَسْكُنُونَ إليها.
وقالَ قتادَةُ والكَلْبيُّ : هي مِنَ السكونِ أَي طُمْأَنِينَة مِن ربِّكُم ففي أَيِّ مكانٍ كانَ التابوتُ اطْمَأَنّوا إليه وسَكَنُوا ، وعلى القوْلِ الأوَّلِ اخْتَلفوا في صفَتِها فرُوِي عن عليٍّ ، رضِيَ الله تعالَى عنه وكرَّمَ وجْهَه : فأَنْزَلَ الله تعالى عليه السّكِينَةَ ، قالَ : وهي رِيحٌ خَجُوجٌ أَي سَرِيعَةُ المَمَرِّ.
ورُوِي عنه أَيْضاً في تفْسِيرِ الآيةِ أنَّها رِيحٌ صفاقَةٌ لها رأْسانِ ووَجْه كوَجْهِ الإنْسانِ ؛ ووَرَدَ أيْضاً أنَّها حيوانٌ لها وَجْه كوَجْهِ الإنْسانِ مُجْتَمِع وسائِرُها خَلْقٌ رَقِيقٌ كالرِّيحِ والهواءِ.
أَو هي شيءٌ كانَ له رأْسٌ كرأْسِ الهِرِّ مِن زَبْرَجَدٍ وياقُوتٍ ؛ وقيلَ : من زمردٍ وزَبَرْجَدٍ له عَيْنان لهما شُعاعٌ
__________________
(١) البقرة ، الآية ٢٤٨.
(٢) التوبة ، الآيتان ٢٥ و٢٦.
(٣) التوبة ، الآية ٤٠.
(٤) الفتح ، الآية ٤.
(٥) الفتح ، الآية ١٨.
(٦) الفتح ، الآية ٢٦.