ضد اليبوسة وهما كيفيتان ملموستان بديهيتان ، وما ذكر في تعريفهما إمّا لوازمها أو تعريفات لفظية. قال الإمام الرازي : الرّطوبة سهولة الالتصاق بالغير وسهولة الانفصال عنه ، أي كيفية تقتضي تلك السهولة وهي البلّة. لا يقال : لو كانت الرّطوبة كذلك لكان العسل أرطب من الماء لأنّه أشد التصاقا من الماء ، وكذا الحال في الدهن ، مع أنّ كونهما أرطب من الماء باطل. لأنّا نقول العسل وإن كان ألصق من الماء إلاّ أنّه ينفصل بعسر وكذا الدهن. وأيضا نحن لا نفسّر الرّطوبة بنفس الالتصاق حتى يكون الأشد التصاقا أرطب ، بل إنّما فسّرناه بسهولة الالتصاق. وقال الحكماء الرّطوبة كيفية توجب سهولة قبول التّشكل بشكل الحاوي القريب وسهولة تركه ، أي للتشكّل بعد قبوله إيّاه. وردّ بأنّه يرد عليه ما مرّ إذ التشكّل إن كان للرطوبة فما يكون أدوم شكلا يكون أرطب كالعسل ، فإنّه أدوم شكلا بالنسبة إلى الماء ، وأيضا يلزم على هذا أن يكون الهواء أرطب من الماء لأنّه أرقّ قواما وأقبل للتشكّلات وتركها. واتفقوا أي جمهورهم على أنّ خلط الرّطب باليابس يفيد الاستمساك كما أنّه يفيد الرّطب استمساكا من السّيلان ، فيجب على تقدير كون الهواء أرطب أن يكون خلط الهواء بالتراب يفيد التراب استمساكا من التفرّق ، ويفيد التراب الهواء استمساكا من السّيلان ، وكلاهما باطلان.
وهاهنا أبحاث. الأوّل : زعم البعض أنّ رطوبة الماء مخالفة بالماهية لرطوبة الدّهن المخالفة لرطوبة الزيبق. فالرطوبة جنس تحتها أنواع. وزعم آخرون أنّ ماهيتها واحدة بالنوع والاختلاف بسبب اختلاط اليابس بالرطب. قال الإمام الرازي : كلا القولين مختلّ. والثاني : هل توجد كيفية متوسّطة بين الرطوبة واليبوسة تنافيهما كالحمرة بين السّواد والبياض أو لا توجد؟ والحق أنّه غير معلوم ، وأنّ إمكان وجودها مشكوك فيه. والثالث : في المباحث المشرقية أنّ الرطوبة إن فسّرت بقابلية الأشكال كانت عدمية ، وإلاّ احتاجت إلى قابلية أخرى فيتسلسل. وإن فسّرت بعلّة القابلية فكذلك لأنّ الجسم لذاته قابل للأشكال فلا تكون هذه القابلية معلّلة بعلّة زائدة على ذات الجسم ، وإن سلّم كونها وجودية على تفسيرهم فالأشبه أنّها ليست محسوسة لأنّ الهواء رطب لا محالة بذلك المعنى ، فلو كانت الرطوبة محسوسة لكانت رطوبة الهواء المعتدل الساكن محسوسة ، فكان الهواء دائما محسوسا ، وكان يجب أن لا يشكّ الجمهور في وجوده ولا يظنّوا أنّ الفضاء الذي بين السّماء والأرض خلاء صرفا. وإذا فسّرناها بالكيفية المقتضية لسهولة الالتصاق ، فالأظهر أنّها محسوسة ، وإن كان للبحث فيه مجال. وقد مال ابن سينا في بحث الأسطقسات من الشفاء (١) إلى أنّها غير محسوسة. وفي كتاب النفس (٢) منه إلى أنّها محسوسة ، ولعله أراد أنّ الرطوبة بمعنى سهولة قبول الأشكال غير محسوسة ، وبمعنى الالتصاق محسوسة ، هكذا يستفاد من شرح المواقف وشرح الطوالع. والرابع : الرّطب ، كما يقال على ما مرّ ، كذلك يقال على معان أخر. في بحر الجواهر : الرّطب بفتحتين يقال لما يقبل الاتصال والانفصال والتشكّل بسهولة بحيث لا يظهر فيه ممانعة عن ذلك ، كما يقال إنّ الهواء رطب ، ولما هو بطبعه متماسك ، لكنه بأدنى سبب يصير قابلا
__________________
(١) ورد سابقا.
(٢) لابن سينا الشيخ الرئيس أبو علي ، (ـ ٤٢٨ هـ) مقتبس عن مباحث أرسطو في النفس وأهداه الشيخ الرئيس للأمير نوح بن منصور الساماني ، طبع بمطبعة المعارف ، ١٣٢٥ ه.