البرية ، ومفارقة الأخلاق الطبعية (١) ، وإخماد الصفات البشرية ، ومجانبة الدّعاوي النفسانية ، ومنازلة الصفات الروحانية ، والتعلّق بالعلوم الحقيقية ، واستعمال ما هو أولى على السرمدية ، والنصح لجميع الأمة والوفاء لله تعالى على الحقيقة ، واتّباع رسوله صلىاللهعليهوسلم في الشريعة. وقيل ترك الاختيار وقيل بذل المجهود والأنس بالمعبود. وقيل حفظ حواشيك (٢) من مراعاة أنفاسك. وقيل الإعراض عن الاعتراض. وقيل هو صفاء المعاملة مع الله تعالى ، وأصله التفرّغ عن الدنيا. وقيل الصبر تحت الأمر والنهي. وقيل خدمة التشرّف وترك التكلّف واستعمال التطرّف. وقيل الأخذ بالحقائق والكلام بالدقائق والإياس بما (٣) في أيدي الخلائق ، كذا في الجرجاني.
اعلم أنّه قيل إنّ التصوّف مأخوذ من الصّفاء وهو محمود في كل لسان ، وضدّه الكدورة وهو مذموم في كل لسان. وفي الخبر ورد أنّ النبي المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «ذهب صفاء الدنيا ولم يبق إلا كدرها». ذن : الموت يعتبر اليوم تحفة لكلّ مسلم.
وقد اشتق ذلك الاسم من الصّفاء حتى صار غالبا على رجال هذه الطائفة ؛ أمّا في عصر النبي صلىاللهعليهوسلم فكان اسم الصحابة هو ما يطلق على أكابر الأمّة ، ثم كانت الطبقة التالية طبقة التابعين ، ثم كانت الطبقة الثالثة أتباع التابعين ، ثم صار يطلق على من يعتنون بأمر الدين أكثر من غيرهم اسم الزّهاد والعبّاد ، ثم بعد ظهور أهل البدع وادعائهم الزهد والعبادة انفرد أهل السّنّة بتسمية الخواصّ منهم ممن يراعون الأنفاس باسم الصوفية. وقد اشتهروا بهذا الاسم ، حتى إنهم قالوا : إنّ اطلاق هذا الاسم على الأعلام إنّما عرف قبل انقضاء القرن الثاني للهجرة.
وجاء في توضيح المذاهب : أمّا التصوّف في اللغة فهو ارتداء الصوف وهو من أثر الزّهد في الدنيا وترك التنعّم. وفي اصطلاح أهل العرفان : تطهير القلب من محبة ما سوى الله ، وتزيين الظاهر من حيث العمل والاعتقاد بالأوامر والابتعاد عن النواهي ، والمواظبة على سنّة النبي صلىاللهعليهوسلم. وهؤلاء الصوفية هم أهل الحق ، ولكن يوجد قسم منهم على الباطل ممّن يعدّون أنفسهم صوفية وليسوا في الحقيقة منهم ، وهؤلاء عدّة من الفرق إليك بعض أسمائها : الجبية والأوليائية والشمراخية والإباحية والحالية والحلولية والحورية والواقفية والمتجاهلية والمتكاسلية والإلهامية.
وما تسمية هؤلاء بالصوفية إلا من قبيل إطلاق السّيد على غير السّيد. وأمّا مراتب الناس على اختلاف درجاتهم فعلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : الواصلون الكمّل وهم الطبقة العليا.
القسم الثاني : السالكون في طريق الكمال ، وهؤلاء هم الطبقة الوسطى.
والقسم الثالث : سكان الأرض والحفر (أهل المادة) «اللاصقون بالتراب» وهؤلاء هم الطبقة السفلى التي غايتها تربية البدن بتحصيل الحظوظ المادّية كالشهوات النّفسانية والمتع الشّهوانية وزينة اللباس ، وليس لهم من العبادات سوى حركة الجوارح الظاهرية.
وأما القسم الأول الواصلون فهم أيضا
__________________
(١) الطبيعية (م).
(٢) حواسك (م).
(٣) عما (م).