الأرض ، بما راح ينقضُ الوصاية في التعيين ، ويشلُّ قوى البيت المبنيِّ للانطلاق الموجَّه والمدروس ، فإنَّ ذلك ما جعله واقفاً مذعوراً مِن مَغبَّة العصيان ، عِصيان جَدِّه في أعزِّ أمانيه وتصاميمه ، وفي أفخم توصياته قبل أنْ يترك الأرض ، إلاَّ أنَّ إيمانه بأبيه بأنَّه سيتمكَّن مِن إعادة الأُمور إلى نصابها ، جعله في مكامن التربُّص والانتظار ، ولكنَّ مَجريات الأُمور والأحداث ، ساقت إليه الخيبة تلو الخيبة ، والهزيمة تلو الهزيمة ، وهذه كلُّها كانت أزاميل جديدة عمَّقت حُفرها في ذهنه ، وأكسبته قوَّة في مكامن النفس لا تعترف ـ مُطلقاً ـ لا بخيبة ولا بهزيمة.
إنَّ العقل وحده عند الحسين هو الذي اكتشف الحقيقة ، التي تتغلَّف بها القضايا الكبيرة في الوجود ، ولقد اكتشف أنَّ الحَقَّ هو الذي يبني القضيَّة وأنَّ القضيَّة التي هي الحَقُّ ، لا يكون عمرها بالساعات ، بلْ إنَّها الأبقى مِن الدهر ... لقد سمع أباه يقول : «للباطل ساعة ولكنَّ الحَقَّ فإلى قيام الساعة» وما كان قد انجلى لمَّا سمع أباه هكذا ينطق ـ إلاَّ أنَّه الآن ـ بعد أنْ شاهد أباه يختم شفتيه بالصمت الفصيح ، وبعد أنْ غاب أخوه بجُرعة سَمٍّ!!! وجد نفسه أمام حقيقة الإدراك بأنَّه مُنتدب لتعهُّد الحَقِّ ، وسيقوم بحقيقة التعهُّد ، فإمَّا يكون له الظهور ، وإمَّا يكون له بروز العُنفوان الذي يبني الإنسان ـ لا للذلِّ ـ بل للحياة ... أمَّا الأُمَّة التي هي مِن بُنية جَدِّه ، فهي التي تبقى أبداً تنظر إليه ـ ولو بعد ألف حين ـ بأنَّه العُنفوان الذي إذ ما تُفتِّش عنه الأُمَّة تجده في حقيقة ذاتها ، وذلك هو جوهر الإنسان الذي بذل له جَدُّه وأبوه عُرق العمر!!!
هل يُمكننا الآن أنْ نقول : إنَّه هنا الحسين؟