تُكبِّل هذا الانسان
عن بلوغ حقيقته العُظمى في الحياة؟ لقد كان هذا الانسان بلا كتاب ، فهجَّأ له ـ
لحظةً بعد لحظةٍ ـ كلَّ حروف الكتاب ، كان فرداً يُتقن القفز بين المفاوز وخلف
الطرائد ، فضغطه إنساناً يعرف كيف يمشي على الطريق ، وكان قبيلة تلعب بها البطون
والأفخاذ ، فجاهدها حتَّى جعلها في الوحدة المُجتمعيَّة المؤمنة بالحقيقة ، لقد
كان هذا الانسان بلا قضيَّة فدمجه بالقضيَّة ، وأفهمه أنَّ الأُمَّة الواحدة لا
يعلو لها إلاَّ صرح واحد مؤمن ، متين الأساس ، وعزيز الحَجر ، وكريم السقف ، أنَّه
بيت الأُمَّة الواعية ، يوحِّدها الشوق ، ويجمعها العقل إلى تعزيز المصير المُشترك.
هل كان أحد غير هذا الفتى الرائي ، في
حقيقة العزم والإقدام لخوض غمار معركة ، كان يبدو أنَّها خارقة الجنون ، وإذا بها
ـ بعد اختلاءٍ في غارٍ ـ تُحقِّق ذاتها ، وتُحقِّق المعجزة التي لم يُحقِّقها ـ
مُجتمعين ـ كلُّ الإبطال الذين ألَّفوا ملحمة هوميروس؟ إنَّها ـ العمري ـ أضخم
معركة حصلت على وجه الأرض ، كان بطلها إنساناً حقيقيَّاً ، ولم يتجاوز الوقت الذي
أحرزت فيه النصر عشر سنين ، وإذا بمُجتمع ـ برُمَّته ـ يلتمُّ إلى وحدة فوق ساحة
كانت تلتهمها المسافات الفارغة ، وتُفرِّطها العادات والتقاليد ، وأبالسة الشياطين
، وأُلوف مِن القبائل المُشرَّدة ، والعشائر الضائعة في الليل ، وكلُّ شيخٍ مِن
شيوخهن كأنَّه صنم بلا عين ، ولا قلب ، ولا لسان.
أجلْ ، إنَّها معركة التهبُّت بالحقِّ ،
واشتغل بها الوجدان المُجنح بالخيال ، على صهواتٍ بيضٍ راحت تُحرِّر الأرض مِن
عبوديَّتها المُعفَّرة بالسراب وبالغبار ، وترفعها إلى فضاءٍ يمرح فيه شعاع سَني
النور ، مربوط الضلعين بالإسراء والمعراج ، فإذا السموات السبع ، وكلُّها موسوعة
المَمرَّات إلى جنان تشرب الكوثر مِن راحتي الوعد السخي ، الذي سيتمتَّع به
الإنسان الذي يسمو بالحَقِّ ، والصدق والمعرفة ، وهو يتحلَّى بالمُثل الكريمة
النابعة مِن إيمانه بإلهٍ واحدٍ أمثل ، يُخلصِّه مِن كلِّ عبوديَّة ، ويُنظِّفه
مِن الرغبات السود ، ويزينه بالصدق ، والطُّهر ، والعفاف ، ويُحضِّره لأنْ