لا ـ لم تكن مسيرة الحسين مِن مَكَّة
إلى العراق نَزْقاً موصلاً إلى جنون الانتحار ـ إنَّما كانت مسيرة الروح ، والعقل
، والعزم ، والضمير إلى الواحة الكُبرى التي لا يُرويها إلاَّ العنفوان والوجدان.
إنَّ مُجتمعا يخسر معركة العُنفوان والوجدان ، هو المُجتمع الذي لم يتعلَّم بعد
كيف يكتب ، ولا كيف يقرأ كلمة المَجد أو كلمة الكرامة في حقيقة الانسان.
ومشى الحسين مِن مَكَّة ـ وأهل بيته
جميعهم في محمول القافلة ـ ومعه أبوه الرابض هناك في النجف الأشرف ، وأُمُّه
الثاوية هنا في البقيع ، والمُتلفِّعة بوشاحها المُطرَّز ، وأخوه المُتزِّمل
بجُبَّته البيضاء ، وجَدُّه الممدود فوق المدى ، ومعه كلُّ الجُدود المُطيَّبين ، مِن
أبي طالب ، إلى عمرو العُلا ، الهاشمين الثريد في القِصاع ، المُشبعين العُطاش مِن
بئر زمزم ، ومعه الرسالة في القرآن ، ومعه الاجتهاد وكلُّ صيغ الجهاد ، ومعه
الغيرة على مُجتمع فُكَّ جديداً مِن أُساره وأُعيد مِن غياب طويل ، حتَّى يتعلَّم
كيف يكتب الكلمة وكيف يقرأها للحياة.
أنا لا أقول : إنَّ الحسين قد تأبَّط
كلَّ هؤلاء الرَّزم وسار مِن مَكَّة إلى كربلاء ، ليرميهم جميعا فوق رمالٍ محروقة
بالعطش ، في حين ينساب إلى جنبها ماء الفرات ، إنَّما جاء المَعين يجري مِن بين
راحتيه ، والكلمة العزيزة ترقص مغزولة في عينيه ، لقد جاء يُعلِّم كيف تكتب الكلمة
، وكيف يقرأها العِزُّ والمَجد والعنفوان! لقد جاء بالمُحاولة الكُبرى ، فإنَّها ـ
إنْ لم تسمح الآن ـ سيكون لها ، مع كلِّ غَدٍ ، وقع يلفظ الحرف ، ووقع يؤلِّف
الكلمة ، يكفي الصدى ، بقاياه تتعبَّأ بها حنايا الكهوف ، ويستعين بها المُجتمع
النائم ، لصياغة حُلمه ، فيُفيق ويعود يبني نفسه مِن غُبار المَعْمَعة.
لا ـ لم تكن مسيرة الحسين غير ثورة في
الروح لم ترضَ بسيادة الغيِّ ، والجهل ، والغباء ، ـ بالأمس كان أخوه الحسن قُدوة
بيضاء ، وها هو اليوم ـ الحسين ـ يقوم بقُدوة حمراء ، وكلا القُدوتين مُشتَّق مِن
مصدر واحد هو المصدر الأكبر ، مِن أجل بناء المُجتمع بناء تتعزَّز في تطويره
وتتنوَّع كلُّ السُّبل ـ هكذا قال جَدُّه وأبوه في حقيقة