صانها بصُلحها مع نفسها ، فإذا هو القُدوة الدائمة التقديم كلَّما عصفت بأُمَّتي موجة ، فيها وهن وفيها رَمد. أمَّا قضيَّتك أنت الذي سمعتك الآن تصوغها وتُنضِّد حروفها ، فدعني أُبارك روحك وعزمك ؛ حتَّى تتلقَّط بها بسيف أبيض وشَفة حمراء ، امشِ ـ يا ابني ـ إلى ساحتك ، أتظنُّني سأبكي عليك؟ ولكنِّي بنيتك مِن دمعة العين وخفقة المُهجة ، ولا أُمَّك فاطمة إلاَّ وترنو إليك ببسمتها المفطومة ؛ لأنَّك تُقدِّم قضيَّة تحيا بها أجيال الأُمَّة ... أجيال الأُمَّة ... أجيال الأُمَّة ...
ـ ٤ ـ
عندما كان مثل هذا الصدى ـ الملآن ـ يتجاوب في روح الحسين ، وهو المُستجيب إلى وحدته الغارقة في بحبوحة التأمُّل ، تَقدَّم مِن المعبر الداخلي بوَّابه الأسمر العريض المنكبين ـ أسعد الهجري ـ وفي يده ماثلة بعدَّة شمعات مُضاءة وهو يقول :
أسعد : ـ عرفت أنَّك كنت مُستأنساً بوحدتك في عُتمة الليل ، ولكنَّ قادماً ـ لا أظنُّك ترتاح كثيراً إليه ـ جاء يطلب مُقابلتك.
ابتسم ... ابتسم الحسين ابتسامة صفراء ، وهو يجلس على فراش مِن أفرشة الديوان ، مُعقبَّاً على كلام الهجري :
الحسين : ـ مُنذ عِدَّة أيَّام ونحن ـ الثلاثة ـ نستعرض نفسيَّة الوالي على المدينة ، الوليد بن عُتبة : أخي محمد بن الحنفية ، وابن عَمِّنا عبد الله بن جعفر ، وأنا الحسين ـ يا أسعد ـ ولم أُخفِ عنك الأمر ، ولا الخُطَّة التي اعتمدناها بانسلالنا هذا الليل مِن المدينة إلى مَكَّة ، فدع الوالي يدخل الآن ، وأكمل أنت حَزم الأمتعة للسفر ـ توَّاً ـ بعد أنْ يترك ابن عُتبة عَتبة الدار.