القلاع نقشاً
تُزيِّن به جُدران الأغوار ، وتطلي به كلَّ حرفٍ يتزنَّر به خصر الكلمة.
واهتزَّ القلم في كفِّي كأنَّه مِن
انتفاضة جاء ولمَّا أنته مِن عرضي بعد ، قال : وإنْ أقبل منك الثناء ـ فهل تظنُّني
هكذا به أغترُّ؟! أنا بين يديك يا رفيقي ، ويا وليِّي الأبرُّ ، ألاَّ أنَّني
غزارة ، ما هزَّتني الريح وسقتني الديمة ، إلاَّ لأنْ أكون ريشة بين يديك ، وها
أنا لك تبريني بشفرة سكِّينك ، تسقيني مِن رمش عينيك. أنا لا آخذ الكلمة الإَّ منك
، ولا أبنيها جداراً إلاَّ بخفقة مِعصمك ، فهل لك أنت مِمَّا أردُّه إليك أنْ
تُباهي أوْ أنْ تَغترُّ؟
وراح القلم في كفَّي إلى صمت حريز ، وهو
يرقب قنِّينة الحِبر ، كأنَّه يهفو إليها تأخذ هي ـ له ـ منِّي الجواب :
ـ صدقت يا صنوي الحبيب ، وأنا مثلك لا
يحقُّ لي أنْ أغترَّ ـ كلانا غَزارة يا قلمي في كفِّ الحياة ـ إنَّها هي التي
تَبرينا أقلاماً وتسقينا مِن حِبرها نلوِّن به صفحة القرطاس ، نأخذ الكلمة منها
ونبنيها في حقيقة التعبير ـ فإذا كان لنا الغوص العميق والجمع الأصيل ، فذلك مِن
معانيها الصحيحة ننقله إلى الصفحة المزدهية بجمال التصوير. الصدق والغوص يا قلمي ،
كلاهما في المُجتنى ، يبنيان الكلمة تشفُّ بهما ، ويبنيان النفس إلى حقيقة الغرف
وحقيقة التأثير.
تلك هي القضايا الكبيرة في الحياة ،
تنبت منها الكلمة ، ويصدر عنها التعبير ـ والشوق والفهم هما الصيادان الماهران
اللذان يتلقطان بالكلمة المنسوجة مِن حقيقة القضيَّة ـ والمُعبِّرة هي عن حقيقة
جلالها.
أمَّا الدعوة الجديدة التي يُحفِّزك
ويُحفِّزني الشوق إلى جعلها جليلة في المضمار ، فلا أظنُّك إلاَّ مُتهيِّباً مِثلي
جديَّة الغوص فيها ؛ لانَّ لها ـ في المجال الكبير ـ قضيَّة مُلتهبة بالجوهر الذي
تُفتِّش عنه حقيقة الإنسان.
عديدون هُمْ الرؤوس الكبار الذي تناولتُ
إليهم سَهماً مشتاقاً في حقول السيرة ، ولكنِّي لم أؤخذ مع أيِّ واحد منهم ، وهُمْ
العظام ، بهزَّة تناولت مِن نفسي كلَّ كوامنها ، كالهزَّة التي تملَّكتني وأنا
اتتبَّع خُطوات الإمام الحسين مِن أرض الحِجاز ، إلى أرض الكوفة ـ لقد مشى الخُطوط
ذاتها ، وأوسع منها بكثير ، كلُّ واحد