قال اللهُ تعالَى : (الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) (١) وهذا لم يكن أَصْله اسْتِفهاماً ، وليسَ قوْلُه : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) شَكًّا ، ولكنَّه قالَ : هذا لِتقْبيح صَنِيعِهم ، ثم قالَ : (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) (٢) ، كأَنَّه أَرادَ أَن يُنَبِّه على ما قالُوه ، نَحْو قَوْلِكَ للرجُلِ : الخَيْرُ أَحَبُّ إليك أَم الشَّرّ؟ وأَنْتَ تَعْلَم أَنَّه يقولُ الخَيْر ، ولكنْ أَرَدْت أَنْ تُقَبِّح عنْدَه ما صَنَعَ ، هذا كلُّه نَصّ الصِّحاحِ.
وقالَ الفرَّاءُ : ورُبَّما جَعَلَتِ العَرَبُ أَمْ إذا سَبَقَها اسْتِفهامٌ ولا يَصْلُح فيه أَمْ على جهَةِ بَلْ فَيَقُولُونَ : هلْ لَكَ قِبَلَنا حَقُّ أَمْ أَنْتَ رجُلٌ مَعْروفٌ بالظُّلْم ، يُريدُونَ : بلْ أَنْتَ رجُلٌ مَعْروفٌ بالظُّلْم ، وأَنْشَدَ :
فوَ الله ما أَدْرِي أَسَلْمى تَغَوَّلَتْ |
|
أَمِ النَّوْمُ أَمْ كلُّ إليَّ حَبِيبُ (٣) |
يُريدُ : بَلْ كُلُّ.
وقد تكونُ بمعْنَى أَلِفِ الاسْتِفهامِ كقَوْلِكَ : أَمْ عِنْدَك غَداءٌ حاضِرٌ؟ وأَنْتَ تُريدُ : أَعِنْدَك غَداءٌ حاضِرٌ؟ قالَ اللَّيْثُ : وهي لُغَةٌ حَسَنَةٌ مِن لُغاتِ العَرَبِ.
قالَ الأَزْهَرِيُّ : وهذا يجوزُ إذا سَبَقَه كَلَامٌ.
قالَ الجوْهَرِيُّ : وقد تَدْخُلُ أَمْ على هَلْ ، تقولُ : أَمْ هَلْ عِنْدك عَمْرو؟ وقالَ عَلْقمةُ بنُ عَبَدة :
أَمْ هَلْ كَبيرٌ بَكَى لم يَقْضِ عَبْرَتَه |
|
إثْرَ الأَحبَّةِ يَوْمَ البَيْنِ مَشْكُومُ؟ (٤) |
قالَ ابنُ بَرِّي : أَمْ هنا مُنْقَطِعة ، استَأْنَفَ السُّؤَال بها فأَدْخَلَها على هلْ لتَقَدُّم هلْ في البَيْتِ قَبْله ، وهو :
هَلْ ما عَلِمْت وما اسْتُوْدِعْت مَكْتومُ (٥)
ثم استَأْنَف السُّؤال بأَمْ فقالَ : أَمْ هَلْ كَبيرٌ ، قالَ : ومِثْلُه قَوْل الجَحَّاف بن حكيم :
أَبا مَالِكٍ هَلْ لُمْتَنِي مُذْ حَضَضْتَنِي |
|
على القَتْل أَمْ أَهَلْ لامَنِي منكَ لائِمُ (٦)؟ |
قالَ : إلَّا أَنَّه متى دَخَلَتْ أَمْ على هَلْ بَطَل منها معْنَى الاسْتِفهام ، وإنَّما دَخَلَتْ أَمْ على هَلْ لأنَّها لخُرُوجٍ مِن كَلامٍ إلى كَلام ، فلهذا السَّبَب دخلَتْ على هَلْ فقلْت أَمْ هَلْ ولم تَقُل (٧) هل.
قالَ الجوْهَرِيُّ : ولا تَدْخُل أَمْ على الأَلِفِ ، لا تَقولُ أَعِنْدَك زَيْدٌ أَمْ أَعِنْدَك عَمْرو ، لأنَّ أَصْلَ ما وُضِع للاسْتِفهامِ حَرْفان : أَحدُهما : الَألِفُ ولا تَقَعُ إلَّا في أَوَّل الكَلامِ ، والثاني : أَمْ ولا تَقَعُ إلَّا في وَسَطِ الكَلامِ ، وهَلْ إنَّما أُقِيم مُقام الأَلِفِ في الاسْتِفهامِ فقط ، ولذلِكَ لم تَقَع في كلِّ مَواقِعِ الأصْلِ.
ورُوِي عن أَبي حاتِمٍ قالَ : قالَ أَبو زَيْدٍ : أَمْ قد تكونُ زائِدَةً ، لُغَةُ أَهْلِ اليَمَنِ ، وأَنْشَدَ :
يا دَهْن أَمْ ما كان مَشْيي رَقَصا |
|
بَلْ قد تكون مِشْيَتي تَوَقُّصا (٨) |
أَرادَ : يا دَهْناء فَرَخَّم ، وأَمْ زائِدَةٌ ، أَرادَ : ما كان مَشْيي رَقَصاً ، أَي كُنْت أَتَوقَّصُ وأَنا في شَبِيبَتِي واليومَ قد أَسْنَنْت حتى صار مَشْيي رَقَصاً.
قالَ : وهذا مَذْهَبُ أَبي زَيْدٍ وغيرِه ، يَذْهَب إلى أَنَّ قوْلَه أَمْ ما كان مَشْيي رَقَصاً مَعْطُوف على مَحْذوفٍ تقدَّم المعنى كأَنَّه قالَ : يا دَهْن أَكانَ مَشْيي رَقَصاً أَمْ ما كان كَذلِكَ.
* وممَّا يُسْتدركُ عليه :
تكونُ أَمْ بلُغَةِ بعضِ أَهْلِ اليَمَنِ بمعْنَى الأَلِفِ واللامِ.
وفي الحَدِيْث : «ليسَ مِن امْبرِّ امْصِيامُ في امْسَفَر» أَي ليسَ مِن البِرِّ الصِّيامُ في السَّفَرِ.
[أنم] : الأنامُ ، كسَحابٍ : أَهْمَلَه الجوْهَرِيُّ. واخْتُلِفَ فيه فقيلَ : مِن أَنَمَ ، وقيلَ : أَصْلُه وَنَام مِن وَنَمَ إذا صَوَّت مِن
__________________
(١) السجدة الآية ١ ـ ٢ ـ ٣.
(٢) السجدة الآية ٣.
(٣) اللسان بدون نسبة.
(٤) مفضلية رقم ١٢٠ بيت رقم ٢ والضبط عنهما. واللسان والصحاح.
(٥) عجزه في المفضليات :
أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
(٦) اللسان.
(٧) في اللسان : أَهَل.
(٨) اللسان والأول في الصحاح : برواية باهند.