والمَواضِعِ الصَّعْبَةِ البَعِيدَةِ ، وهي تُحَمَّقُ مع ذلك ، نقَلَه الجَوْهَرِيُّ ، وقد تَقَدَّمَ شاهِدُه من قَوْلِ الكُمَيْتِ ، وفي حدِيثِ عليٍّ رضياللهعنه : «تَرَقَّيْتَ إِلى مَرْقاةٍ يَقْصُر دُونَها الأَنُوقُ» وفي حَدِيثِ مُعاوِيَةَ : «قالَ له رَجُلٌ : افْرِضْ لِي ، قالَ : نَعَمْ ، قالَ : ولَوَلَدِي ، قالَ : لا ، قالَ : ولِعَشِيرَتِي ، قالَ : لا ، ثُمَّ تَمَثَّلَ :
طَلَبَ الأَبْلَقَ العَقُوقَ فَلَمّا |
|
لَمْ يَنَلْهُ أَرادَ بَيْضَ الأَنُوقِ(١) |
قالَ أَبو العَبّاسِ : هذا مَثَلٌ يُضْرَبُ للّذِي يَسْأَلُ الهَيِّنَ فلا يُعْطَى ، فيَسْأَلُ ما هو أَصْعَبُ منه ، وقالَ غيرُه : العَقُوقُ : الحامِلُ (٢) من النُّوقِ ، والأَبْلَقُ : من صِفاتِ الذُّكُورِ ، والذَّكَرُ لا يَحْمِلُ ، فكأَنّه طَلَبَ الذَّكَرَ الحامِلَ (٢) والأَنُوقُ واحِدٌ وجَمْعٌ ، وقالَ ابنُ سِيدَه : يَجُوزُ أَنْ يُعْنَى بهِ الرَّخَمَة الأُنْثَى ، وأَنْ يُعْنَى به الذَّكَر ؛ لأَنَّ بَيْضَ الذَّكَرِ مَعْدُومٌ ، وقد يَجُوزُ أَنْ يُضافَ البَيْضُ إِليهِ ؛ لأَنّه كَثِيراً ما يَحْضُنُها ، وإِنْ كانَ ذَكَراً ، كما يَحْضُنُ الظَّلِيمُ بيضَهُ.
وقال الصّاغانِيُّ : في شرحِ قَوْلِ الكُمَيْتِ السّابِقِ ، وإنّما كَيَّسَ حَوِيلَها لأَنَّها أَولُ الطَّيْرِ قِطاعاً ، وأَنَّها تَبِيضُ حيثُ لا يَلْحَقُ شَيءٌ بَيْضَها. قُلْتُ : ومنه قولُ العُدَيْلِ بنِ الفَرْخِ :
بَيْضُ الأَنُوقِ كَسِرِّهِنَّ ومَنْ يُرِدْ |
|
بَيْضَ الأَنُقِ فإِنَّه بمَعاقِلِ |
وقِيلَ : في أَخْلاقِها من الكَيْس عَشْرُ خِصال وهُنَّ : تحْضُنُ بَيْضَها ، وتَحْمِي فَرْخَها ، وتَأْلَفُ وَلَدَها ، ولا تُمَكِّنُ من نَفْسِها غيرَ زَوْجِها ، وتَقْطَعُ في أَوَّلِ القَواطِعِ ، وتَرْجِعُ في أَوَّلِ الرَّواجِعِ ، ولا تَطِيرُ في التَّحْسِيرِ ، ولا تَغْتَرُّ بالشَّكِيرِ ، ولا تُرِبُّ بالوُكُور ، ولا تَسْقُطُ على الجَفِيرِ يريدُ أَنَّ الصّيّادِينَ يَطْلُبُونَ الطَّيْرَ بعدَ أَنْ يُوقِنُوا أَنَّ القَواطِعَ قد قَطَعَتْ ، والرَّخَمةُ تَقْطَعُ أَوائِلَها ؛ لتَنْجُوَ ، أَي : تَتَحَوَّلَ من الجُرُوم إِلى الصُّرُودِ ، أَوْ من الصُّرُودِ إِلى الجُرُومِ ، والتَّحْسِيرُ : سُقُوطُ الرِّيشِ ، ولا تَغْتَرُّ بالشَّكِيرِ : أَيْ بصِغارِ رِيشِها بل تَنْتَظِرُ حَتَّى يَصِيرَ رِيشُها قَصَباً فتَطِيرُ والجَفِيرُ : الجَعْبَةُ ؛ لعِلْمِها أَنَّ فِيهَا سِهاماً ، هذا هو الصَّوابُ في الضَّبْطِ ، ومثلُه في سائِرِ أَصُولِ اللُّغَةِ المُصَحَّحَة ، ووَهِمَ من ضَبَطَه بالحاءِ المُهْمَلَةِ ، واسْتَظْهَرَه ، وكذا من ضَبَطَه بالحاءِ والقافِ ، فإِنَّ هذه الأُمُورَ وأَمثالَها نَقْلٌ ، لا مَدْخَلَ فِيها للرّأْيِ أَو الاحْتِمالاتِ ، وادِّعاؤُه أَنّه عَلَى الجِيمِ لا يَظْهَرُ له مَعْنًى غَفْلَةٌ عن التَّأَمُّلِ ، وجَهْلٌ بنُصُوصِ الأَئِمَّةِ ، فليُتَنَبَّهْ لذلِك ، وقد أَشار إِلى بعضِه شيخُنا رَحِمَهُ الله تعالى.
ويُقال : ما آنَفَهُ في كَذَا : أَي ما أَشَدَّ طَلَبَه له.
وآنَقَنِي الشَّيْءُ إِيناقاً ، ونِيقاً بالكسرِ : أَعْجَبَني ومنه حَدِيثُ قَزَعَةَ مولَى زِيادٍ : «سَمِعْتُ أَبا سَعِيدٍ يُحَدِّثُ عن رَسُولِ الله صلىاللهعليهوسلم بأَرْبَعٍ فآنَقَتْنِي» أَي : أَعْجَبَتْنِي (٣) ، قالَ ابنُ الأَثِير : والمُحَدِّثُونَ يرْوُونَه أَيْنَقْتَنِي وليس بشَيْءٍ ، قالَ : وقد جاءَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ : «لا أَيْنَقُ (٤) بحَدِيثهِ»
أَي : لا أُعْجَبُ ، وهي هكَذا تُرْوَى.
وقالَ الأَزْهَرِيُّ عن ابنِ الأَعْرابِيِّ : أَنْوَقَ الرَّجُلُ : اصْطادَ الأَنُوقَ ، للرَّخَمَةِ هكَذا ذَكَره فِي التَّهْذِيبِ عنه في هذا التَّرْكِيبِ ، قال الصّاغانِيُّ : وإِنَّما يَسْتَقِيمُ هذَا إِذا كانَ اللَّفْظُ أَجْوَفَ فأَمّا وهو مَهْمُوزُ الفاءِ فَلَا.
وشَيْءٌ أَنِيقٌ ، كأَمِيرٍ : حَسَنٌ مُعْجِبٌ وقد آنَقَه الشَّيْءُ ، فَهُو مُؤْنِقٌ وأَنِيقٌ ، ومِثْلُه مُؤْلِمٌ وأَلِيمٌ ، ومُسْمِعٌ وسَمِيعٌ ، ومُبْدِعٌ وبَدِيعٌ ، ومُكِلٌّ وكَلِيلٌ وله أَناقَةٌ بالفَتْحِ ويُكْسَرُ أَي : حُسْنٌ وإِعْجابٌ ، وفي اللِّسان : فِيهِ أَنَاقَةٌ ولَباقَةٌ ، وجاءَ بهِ بعدَ التَّأَنُّقِ ، فيكونُ المَعْنَى : أَي إِجادَةٌ وإِحْسانٌ.
وأَنَّقَ تَأْنِيقاً : أَي عَجَّبَ قالَ رُؤْبَةُ :
وشَرُّ أُلَّافِ الصِّبَا مَنْ أَنَّقا
وتَأَنَّقَ فيهِ : عَمِلَه بالإِتْقانِ والحِكْمَةِ وقيلَ : إِذا تَجَوَّدَ وجاءَ فيه بالعَجَبِ كتَنَوَّقَ من النِّيقَةِ.
وتَأَنَّقَ المَكانَ أَعْجَبَه فعَلِقَه وَلَمْ يُفارِقْه ، وقالَ الفَرّاءُ : أَي أَحَبَّهُ.
* ومما يُسْتَدْرَكُ عليه :
__________________
(١) كذا في اللسان والنهاية وفي التهذيب : قال معاوية لرجل أراده على حاجة لا يسأل مثلها وهو يفتل له في الذروة ليخدعه عنها : «أنا أجلّ من الحرش» يريد الخديعة ، ثم سأله أخرى أصعب منها ، فقال ... وذكر البيت.
(٢) عن النهاية في الموضعين ، وبالأصل «الحائل».
(٣) في النهاية : «فآنقتني» أي أعجبنني.
(٤) عن النهاية وبالأصل «لا أنيق».