العِبَارَةَ ـ فسُمِّيَ هذا تَوْقِيعاً ؛ لِانَّهُ تَأْثِيرٌ فِي الكِتَابِ حِسًّا ، أَوْ في الأَمْرِ مَعْنًى ، أَوْ مِنَ الوُقُوعِ ؛ لأَنَّه سَبَبٌ لوُقُوعِ الأَمْرِ المَذْكُورِ ، أَو لِانَّهُ إِيقاعٌ لِذلِكَ المَكْتُوبِ في الكِتَابِ ، فتَوْقِيعُ كَذا بِمَعْنَى إِيقاعهِ.
قلتُ : ومِنْ أَحْسَنِ ما رَأَيْتُ في التَّوْقِيعاتِ قَوْلُ العَفِيفِ عبدِ الله بنِ جَعْفَرٍ ، مِنْ مَشَاهِيرِ رِجالِ زَعْلٍ ، وَفَدَ عَلَى المُؤَيَّدِ صاحِبِ تَغِزَّ ، فدَاعَبَه في طَلَبِ الفَسْخ قالَ :
يا مَلِيكاً لَوْ وَزَنّا نَعْلَه |
|
بِجَمِيعِ الخَلْقِ طُرًّا وَزَنَتْ |
إِنَّ مَنْ غابَ عَنِ الإِلْفِ زَنَى |
|
بَعْدَ طُولِ المُكْثِ عَنْهَا ... |
ولم يَكْتُبُ قافِيَةَ البَيْتِ الثّانِي ، فوَقَّعَ المُؤَيَّدُ : «وَزَنَتْ» رَحِمَهُ اللهُ ، فدَّلَّ ذلِكَ عَلَى جَوْدَةِ فَهْمِهِمَا ، نَقَلْتُه مِنْ كتابِ الأَنْسَابِ للنَّاشِرِيِّ.
قالَ شَيْخُنا : وقَدْ زَعَمَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَماءِ الأَدَبِ وأَئِمَّةِ اللِّسَانِ : أَنَّ التَّوْقِيعَ مِنْ الكَلامِ الإِسْلامِيِّ ، وأَنَّ العَرَبَ لا تَعْرِفُه ، وقد صَنَّفَ فِيهِ جَمَاعَةٌ ، ولا سِيَّما أَهْلُ الأَنْدَلُسِ ، وكلامُهُم ظاهِرٌ فِي أَنَّهُ غَيْرُ عَرَبِيٍّ قَدِيمِ ، وإِنْ كانَ مَأْخُوذاً مِنَ المَعَانِي العَرَبِيَّةِ ، فَتَأَمَّلْ.
ثم قالَ الجَوْهَرِيُّ : يُقَالُ : السُّرُورُ تَوْقِيعٌ جائِزٌ ، قالَ شَيْخُنا : أَي مِنْ أَسْبَابِ السُّرُورِ التَّوْقِيعُ الجَائِزُ ، أَي : النّافِذُ الماضِي الَّذِي لا يَرُدُّه أَحَدٌ ، لأَنَّه يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الإِمَارَةِ ، وتَمَامِ الرِّيَاسَةِ ، وهي للنُّفُوسِ أَشْهَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، ولِذلِكَ جَعَلَ السُّرُورَ مُنْحَصِراً فِيهَا ، وهذَا الكَلامُ كَأَنَّهُ جَوَابٌ مِنْ بَعْضِ الأَكَابِرِ فِي الإِمْرَةِ والوَجاهَة ونُفُوذِ الإِمْرَة ، كأَنَّ شَخْصاً سَأَلَ (١) جَمَاعَةً : ما السُّرُورُ لَدَيْهِ؟ فكُلُّ واحِدٍ أَجابَ بِمَا جُبِلَتْ عليهِ نَفْسُه ، وطُبِعَتْ عَلَيْهِ سَجِيَّتُه ، عَلَى حِسابِ الرَّغَبَاتِ ، وهو كَثِيرٌ.
قالُوا : سُئِلَ عالِمٌ ، فقِيلَ لَهُ : ما السُّرُورُ؟ فقالَ : مَعْنًى صَحَّ بالقِيَاس ، ولَفْظٌ وَضَحَ بَعْدَ الْتِبَاس. وقِيلَ لِشُجاعٍ : ما السُّرُورُ؟ فقَالَ طِرْفٌ سَرِيع ، وقِرْنٌ صَرِيع وقِيلَ لَمَلِكٍ : ما السُّرُورُ؟ فقالَ : إِكْرَامُ وَدُود ، وإِرْغامُ حَسُود.
وقِيلَ لعاقِلٍ : ما السُّرُور؟ فقالَ : صَدِيقٌ تُنَاجِيه ، وعَدُوٌّ تُداجِيه.
وقِيلَ لِمُغَنٍّ : ما السُّرُور؟ فقالَ : مَجْلِسٌ يَقِلُّ هَذَرُه ، وعُودٌ يَنْطِقُ وَتَرُه.
وقِيلَ لِنَاسِكٍ : ما السُّرُورُ؟ فقَالَ : عِبَادَةٌ خالِصَةٌ مِنَ الرِّيَاءِ ، ورِضَى النَّفْسِ بالقَضاءِ.
وقِيلَ لوَزِيرٍ : ما السُّرُورُ؟ فقالَ : تَوْقِيعٌ نافِذٌ.
قالَ شَيْخُنَا : وقَدْ وَقَعَ في مُحَاضَرَاتِ الرّاغِبِ ما يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الّذِي قالَ ذلِكَ هو الفَضْلُ بنُ سَهْلٍ ، فإِنَّ الرّاغِبَ ذَكَرَ في مُحَاضَراتِه باباً مِنَ الأَمَانِيِّ بحَسَبِ أَحْوَالِ المُتَمَنِّينَ ، وذَكَرَ فِيهِ أَنْوَاعاً مِمّا أَسْلَفْنَاهُ ، قالَ في أَوائِلِهِ : قالَ قُتَيْبَةُ بنُ مُسْلِمٍ للحُصَيْنِ بن المُنْذِرِ : ما تَتَمَنَّى؟ فقَالَ : لِوَاءٌ مَنْشُور ، وجُلُوسٌ عَلَى السَّرِير ، وسَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَمِير ، وقِيلَ لِعَبْدِ الله بنِ الأَهْتَم : ما تَتَمَنَّى؟ فقالَ : تَوْقِيعٌ نافِذ ، وأَمْرٌ جائِز ، وقِيل لِحَكِيم : تَمَنَّ (٢) ما تَشَاءُ ، فقالَ : مُحَادَثَةُ الإِخْوَانِ ، وكَفافٌ مِنْ عَيْش ، والانْتِقَالُ من ظِلٍّ إِلى ظِلّ ، وقالَ بعضُهُم : العَيْشُ كُلُّه فِي صِحَّةِ البَدَنِ ، وكَثْرَةِ المالِ ، وخُمُولِ الذِّكْرِ ، ثم قالَ : ووَقَعَ لِلْجاحِظِ أَمْثَالُ هذا مُفَرَّقاً في كُتُبِه عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ هذا ، وفِي هذا القَدْرِ كِفَايَةٌ.
ثمّ قالَ الجَوْهَرِيُّ : والتَّوْقِيعُ : تَظَنِّي الشَّيْءِ وتَوَهُّمه ، يُقَالُ : وَقِّعْ أَي : أَلْقِ ظَنَّكَ عَلَى شَيْءٍ ، وفِي المُحْكَمِ :التَّوْقِيعُ بالظَّنِّ والكَلامِ يَعْتَمِدُه لِيَقَعَ عليهِ وَهْمُه.
وِقالَ اللَّيْثُ : التَّوْقِيعُ : رَمْيٌ قَرِيبٌ لا تُبَاعِدُه ، كأَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تُوقِعَهُ عَلَى شَيْءٍ وكَذلِكَ تَوقِيعُ الأَرْكَانِ.
قالَ الجَوْهَرِيُّ : والتَّوْقِيعُ : إِقْبَالُ الصَّيْقَلِ عَلَى السَّيْفِ بمِيقَعَتِه يُحَدِّدُه ، ومِرْمَاةٌ مُوَقَّعَةٌ.
وِالتَّوْقِيعُ : التَّعْرِيسُ ، وهُوَ النُّزُولُ آخِرَ اللَّيْلِ ، وقَدْ وَقَّعُوا ، قالَ ذُو الرُّمَّةِ :
__________________
(١) بهامش المطبوعة المصرية : «قوله سأل جماعة ما السرور لديه ، هكذا في النسخ والأمر سهل ا ه».
(٢) بالأصل «تمنى».