وَيَوْمَ مَوْتِهِ بالفَلْتَةِ في وقوع الشَّرِّ من ارتدادِ العَرَبِ ، وتَوَقُّفِ (١) الأَنْصَارِ عن الطَّاعَةِ ، ومَنْعِ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ ، والجَرْيِ على عَادَةِ العَرَبِ في أَن لا يَسُودَ القبيلَةَ إِلّا رَجُلٌ مِنْهَا.
ونَقَل ابنُ سِيدَه عن أَبي عُبيدٍ : أَراد : فَجْأَةً ، وكَانَتْ كذلك ، لأَنَّها (٢) لم تُنْتَظَرْ بها العَوامُّ إِنما ابْتَدَرَهَا أَكابِرُ أَصحاب رسولِ الله صلىاللهعليهوسلم من المُهَاجِرِينَ وعامَّةِ الأَنْصارِ إِلّا تِلْكَ الطَّيْرَةَ (٣) التي كانَتْ من بَعْضِهِمْ ، ثم أَصْفَقَ (٤) الكُلُّ له بمَعْرِفَتِهِم أَنْ لَيْسَ لأَبِي بَكْرٍ رضياللهعنه مُنازِعٌ ولا شَرِيكٌ في الفضلِ ، ولم يكن يُحْتَاجُ في أَمْرِه إِلى نَظَر ولا مُشاوَرَةٍ.
وقال الأَزْهَرِيُّ : إِنما معنى فَلْتَة : البَغْتَةُ ، قال : وإِنما عُوجِلَ بِها مُبَادَرَةً لانْتِشارِ الأَمْرِ حتى لا يَطمَعَ فيها من ليسَ لها بِمَوْضِعٍ.
وقال ابنُ الأَثِيرِ : أَرادَ بالفَلْتَة الفَجْأَةَ ، ومِثْلُ هذِهِ البيعةِ جَدِيرةٌ بأَن تكون مُهَيِّجَةً للشَّرِّ والْفِتْنَةِ ، فعَصَم اللهُ تعالى من ذلك ، وَوَقَى ، قالَ : والفَلْتَةُ : كُلُّ شَيْءٍ فُعِلَ من غَيْرِ رَوِيَّةٍ ، وإِنما بُودِرَ بها خَوْفَ انْتِشَارِ الأَمرِ.
وقيل : أَرادَ بالفَلْتَةِ الخَلْسَةَ ، أَي أَنّ الإِمَامَةَ (٥) يومَ السَّقِيفَةِ مَالَت الأَنْفُسُ إِلى تَوَلِّيهَا ، ولذلك كَثُرَ فيها التَّشَاجُرُ ، فما قُلِّدَهَا أَبُو بَكْر إِلّا انْتِزَاعاً من الأَيْدِي ، واخْتِلاساً ، كما في لسانِ العرب ، ومثله في الفائِقِ ، والمُحْكَم ، وغيرها ، ووجدت في بعض المَجَاميع : قال عليُّ بنُ الإِسْرَاج : كان في جِوَارِي جَارٌ يُتَّهَمُ بالتَّشَيُّعِ ، وما بانَ ذلك منه في حالٍ من الحالاتِ إِلا في هِجاءِ امرأَتِهِ ، فإِنه قال في تَطْلِيقها :
ما كُنْتِ من شَكْلِي ولا كُنْتُ مِنْ |
|
شَكْلِكِ يا طَالِقَةُ الْبَتَّهْ |
غَلطْتُ في أَمْرِكِ أُغْلُوطَةً |
|
فأَذْكَرَتْنِي بَيْعَةَ الفَلْتَهْ |
وأَفْلَتَنِي الشَّيْءُ وَتَفَلَّتَ مِنِّي.
وأَفْلَتَ الشَّيْءُ وانْفَلَتَ بمَعْنًى واحدٍ.
وأَفْلَتَهُ غَيْرُه : خَلَّصَهُ ، وفي الحَدِيثِ «تَدَارَسُوا القُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتاً من الإِبِلِ من عُقُلِها» التَّفَلُّتُ والانْفِلاتُ والإِفْلاتُ : التَّخَلُّصُ من الشَّيْءِ فَجْأَةً مِنْ غَيْر تَمَكُّث ، وفي الحِديثِ «أَنَّ رَجُلاً شَرِبَ خَمْراً فَسَكِرَ فَانْطُلِقَ بِهِ إِلى النَّبِيّ صلىاللهعليهوسلم ، فلمّا حَاذَى دارَ العبَّاسِ انْفَلَتَ ، فدَخَلَ عليه ، فَذَكَرَ ذلِك له ، فضَحِكَ ، وقَالَ : أَفَعلَهَا؟ ولم يَأْمُرْ فيه بشَيْءٍ وفي حديث آخر «فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ وأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ من يَدي» أَي تَتَفَلَّتُونَ ، فحُذِفت إِحدى التَّاءَين تخْفِيفاً.
ويقال : أَفْلَتَ فلانٌ جُرَيْعَةَ الذَّقَنِ (٦) يُضْرَبُ مَثَلاً للرَّجُلِ يُشْرِفُ على هَلَكَةٍ ثم يُفْلِتُ ، كَأَنَّهُ جَرَعَ الموْتَ جَرْعاً ثم أَفْلَتَ مِنْه.
والإِفْلاتُ يكونُ بِمَعْنَى الانْفِلاتِ لازِماً ، وقد يكون واقِعاً (٧) ، يقال : أَفْلَتُّهُ من الهَلَكَةِ ، أَي خَلَّصْتُه ، وأَنْشَدَ ابنُ السِّكِّيتِ :
وأَفْلَتَنِي مِنْهَا حِمَارِي وجُبَّتِي |
|
جَزَى اللهُ خَيْراً جُبَّتِي وحِمَارِيَا |
وعن أَبي زَيْد : من أَمثَالِهِمْ في إِفْلاتِ الجَبانِ ، «أَفْلَتَنِي جُرَيْعَةَ الذَّقَنِ» إِذا كَانَ قَرِيباً كقُرْبِ الجُرْعَةِ من الذَّقَنِ ، ثم أَفْلَتَهُ ، قال أَبو مَنْصُور : معنى أَفْلَتَنِي ، أَي انْفَلَتَ مِنّي ، وقيل : معنَاه أَفْلَتَ جَرِيضاً ، قال مُهلهِل :
منّا عَلَى وَائِلٍ وأَفْلَتَنَا |
|
يَوْماً عَدِيٌّ جُرَيْعةَ الذَّقَنِ |
وسيأْتي البَحْثُ في ذلك في ج ر ض.
وعن ابن شُمَيْل : أَفلَتَ فلانٌ من فلان ، وانْفَلَتَ ، ومَرَّ بنا بعِيرٌ مُنْفَلِتٌ ولا يُقَالُ مُفْلِتٌ ، وفي الحَدِيثِ عن أَبي مُوسى
__________________
(١) النهاية : وتخلّف.
(٢) في غريب الهروي : لأنه لم ينتظر بها العوام.
(٣) بهامش المطبوعة المصرية : «قوله الطيرة كذا بخطه وهي الخفة والطيش كما في القاموس».
(٤) عن اللسان ، وبالأصل «لصق» وعبارة الهروي : «ثم أصفقوا له كلهم لمعرفتهم.
(٥) في الفائق : الإمارة.
(٦) بهامش المطبوعة المصرية : «قوله ويقال .. الخ. قال المجد : أفلت فلان جريعة الذقن أو بجريعة الذقن أو بجريعائها وهي كناية عما بقى من روحه ، أي نفسه صارت في فيه أو قريباً منه» وفي التهذيب واللسان «بجريعة الذقن».
(٧) واقعاً أي متعدياً.