وإنما أتى باللفظ الدال على أولي العقل ـ كل من عليها ـ ولم يقل : كل ما عليها كذلك لأن الكلام مسرود في السورة لتعداد نعمه وآلائه تعالى للثقلين في نشأتيهم الدنيا والآخرة.
وظهور قوله : « فانٍ » في الاستقبال كما يستفاد أيضا من السياق يعطي أن قوله : « كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ » يشير إلى انقطاع أمد النشأة الدنيا وارتفاع حكمها بفناء من عليها وهم الثقلان وطلوع النشأة الأخرى عليهم ، وكلاهما أعني فناء من عليها وطلوع نشأة الجزاء عليهم من النعم والآلاء لأن الحياة الدنيا حياة مقدمية لغرض الآخرة والانتقال من المقدمة إلى الغرض والغاية نعمة.
وبذلك يندفع قول من قال : أي نعمة في الفناء حتى يجعل من النعم ويعد من الآلاء.
ومحصل الجواب أن حقيقة هذا الفناء الرجوع إلى الله بالانتقال من الدنيا كما تفسره آيات كثيرة في كلامه تعالى وليس هو الفناء المطلق.
وقوله : « وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ » وجه الشيء ما يستقبل به غيره ويقصده به غيره ، وهو فيه سبحانه صفاته الكريمة التي تتوسط بينه وبين خلقه فتنزل بها عليهم البركات من خلق وتدبير كالعلم والقدرة والسمع والبصر والرحمة والمغفرة والرزق وقد تقدم في تفسير سورة الأعراف كلام مبسوط في كون أسمائه وصفاته تعالى وسائط بينه وبين خلقه.
وقوله : « ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ » في الجلال شيء من معنى الاعتلاء والترفع المعنوي على الغير فيناسب من الصفات ما فيه شائبة الدفع والمنع كالعلو والتعالي والعظمة والكبرياء والتكبر والإحاطة والعزة والغلبة.
ويبقى للإكرام من المعنى ما فيه نعت البهاء والحسن الذي يجذب الغير ويولهه كالعلم والقدرة والحياة والرحمة والجود والجمال والحسن ونحوها وتسمى صفات الجمال كما تسمى القسم الأول صفات الجلال وتسمى الأسماء أيضا على حسب ما فيها من صفات الجمال أو الجلال بأسماء الجمال أو الجلال.
فذو الجلال والإكرام اسم من الأسماء الحسنى جامع بمفهومه بين أسماء الجمال وأسماء الجلال جميعا.
والمسمى به بالحقيقة هو الذات المقدسة كما في قوله في آخر السورة : « تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ » لكن أجرى في هذه الآية ـ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ـ