وإذ لا قاهر
يقهره على فعل ولا مانع يمنعه عن فعل فهو مختار بحقيقة معنى الاختيار هذا بحسب
التكوين والتشريع يتبعه فإن حقيقة التشريع هي أنه فطر الناس على فطرة لا تستقيم
إلا بإتيان أمور هي الواجبات وما في حكمها وترك أمور هي المحرمات وما في حكمها فما
ينتفع به الإنسان في كماله وسعادته هو الذي أمر به وندب إليه وما يتضرر به هو الذي
نهى عنه وحذر منه.
فله تعالى أن
يختار في مرحلة التشريع من الأحكام والقوانين ما يشاء كما أن له أن يختار في مرحلة
التكوين من الخلق والتدبير ما يشاء ، وهذا معنى قوله : « وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ » وقد أطلق إطلاقا.
والظاهر أن
قوله : « يَخْلُقُ
ما يَشاءُ » إشارة إلى اختياره التكويني فإن معنى إطلاقه أنه لا تقصر قدرته عن خلق
شيء ولا يمنعه شيء عما يشاؤه وبعبارة أخرى لا يمتنع عن مشيته شيء لا بنفسه ولا
بمانع يمنع وهذا هو الاختيار بحقيقة معناه ، وقوله : « وَيَخْتارُ » إشارة إلى اختياره التشريعي الاعتباري ويكون عطفه على
قوله : « يَخْلُقُ
ما يَشاءُ » من عطف المسبب على سببه لكون التشريع والاعتبار متفرعا على التكوين
والحقيقة.
ويمكن حمل قوله
: « يَخْلُقُ
ما يَشاءُ » على الاختيار التكويني وقوله : « وَيَخْتارُ » على الأعم من الحقيقة والاعتبار لكن الوجه السابق أوجه
، ومن الدليل عليه كون المنفي في قوله الآتي : « ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ » هو الاختيار التشريعي الاعتباري ، والاختيار المثبت في
قوله «
وَيَخْتارُ » يقابله فالمراد إثبات الاختيار التشريعي الاعتباري.
ثم لا ريب في
أن الإنسان له اختيار تكويني بالنسبة إلى الأفعال الصادرة عنه بالعلم والإرادة وإن
لم يكن اختيارا مطلقا فإن للأسباب والعلل الخارجية دخلا في أفعاله إذ أكله لقمة من
الطعام مثلا متوقف على تحقق مادة الطعام خارجا وقابليته وملائمته وقربه منه
ومساعدة أدوات الأخذ والقبض والالتقام والمضغ والبلع وغير ذلك مما لا يحصى. فصدور
الفعل الاختياري عنه مشروط بموافقة الأسباب الخارجية الداخلية في تحقق فعله ،
والله سبحانه في رأس تلك الأسباب جميعا وإليه ينتهي الكل وهو الذي خلق الإنسان
منعوتا بنعت الاختيار وأعطاه خيرته كما أعطاه خلقه.