فتنا وبلاء يخذل ولا يعان ويغشاه الظلم من كل مكان ـ وصاحبه فيه بين أمرين إن أصاب فيه الحق ـ فبالحري أن يسلم وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا ضعيفا كان أهون عليه في المعاد ـ من أن يكون حكما سريا شريفا ، ومن اختار الدنيا على الآخرة يخسرهما كلتيهما ـ تزول هذه ولا تدرك تلك.
قال : فتعجب الملائكة من حكمته ـ واستحسن الرحمن منطقه ـ فلما أمسى وأخذ مضجعه من الليل ـ أنزل الله عليه الحكمة فغشاه بها من قرنه إلى قدمه ـ وهو نائم وغطاه بالحكمة غطاء فاستيقظ ـ وهو أحكم الناس في زمانه ، وخرج على الناس ينطق بالحكمة ويبثها فيها.
قال : فلما أوتي الحكم بالخلافة ولم يقبلها ـ أمر الله عز وجل الملائكة فنادت داود بالخلافة فقبلها ـ ولم يشترط فيها بشرط لقمان ـ فأعطاه الله عز وجل الخلافة في الأرض وابتلي بها غير مرة كل ذلك يهوي في الخطإ ـ يقيله الله ويغفر له ، وكان لقمان يكثر زيارة داود عليهالسلام ـ ويعظه بمواعظه وحكمته وفضل علمه ، وكان داود يقول له : طوبى لك يا لقمان ـ أوتيت الحكمة وصرفت عنك البلية ـ وأعطي داود الخلافة وابتلي بالحكم والفتنة.
ثم قال أبو عبد الله عليهالسلام في قول الله عز وجل : « وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ـ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ » قال : فوعظ لقمان ابنه بآثار (١) حتى تفطر وانشق.
وكان فيما وعظه به يا حماد أن قال : يا بني إنك منذ سقطت إلى الدنيا استدبرتها واستقبلت الآخرة فدار أنت إليها تسير أقرب إليك من دار أنت عنها متباعد. يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ولا تجادلهم فيمنعوك ، وخذ من الدنيا بلاغا ولا ترفضها ـ فتكون عيالا على الناس ، ولا تدخل فيها دخولا يضر بآخرتك ، وصم صوما يقطع شهوتك ـ ولا تصم صياما يمنعك من الصلاة ـ فإن الصلاة أحب إلى الله من الصيام.
يا بني : إن الدنيا بحر عميق قد هلك فيها عالم كثير ـ فاجعل سفينتك فيها الإيمان واجعل شراعها التوكل ، واجعل زادك فيها تقوى الله ـ فإن نجوت فبرحمة الله وإن
__________________
(١) بآثار ابنه والتفطر والانشقاق كناية عن كمال التأثر.