ومن هنا يظهر أن قوله : « لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى » من تمام بيان الآية كأنه دفع دخل مقدر كأنما قيل : إنها وإن علم بها يوما فهي اليوم باطلة الذوات معفوة الآثار لا يتميز شيء منها من شيء فأجيب بأن شيئا منها ومن آثارها وأعمالها لا يختلط عليه تعالى بتغير ضلال ولا يغيب عنه بنسيان ، ولذا أوردت الجملة مفصولة غير معطوفة.
وقد أثبت العلم ونفى الجهل عنه تعالى بعنوان أنه رب لتكون فيه إشارة إلى برهان المدعى وذلك أن فرض الربوبية لا يجامع فرض الجهل بالمربوب إذ فرض ربوبيته المطلقة لكل شيء ـ والرب هو المالك للشيء المدبر لأمره ـ يستلزم كون الأشياء مملوكة له قائمة الوجود به من كل جهة وكونها مدبرة له كيفما فرضت فهي معلومة له ، ولو فرض شيء منها مجهولا له عن ضلال أو نسيان أو جهل ابتدائي فذلك الشيء أيا ما كان وأينما تحقق مملوك له قائم الوجود به مدبر بتدبيره لا حاجب بينهما ولا فاصل وهو الحضور الذي نسميه علما وقد فرضناه مجهولا أي غائبا عنه هذا خلف.
وقد أضاف الرب إلى نفسه في الآية في موضعين ثانيهما من وضع الظاهر موضع المضمر على ما قيل ولم يقل : « رَبُّنَا » كما في الآية السابقة لأن السؤال السابق إنما كان عن ربهما الذي يدعوان إليه فأجيب بما يطابقه فكان معناه بحسب المقام : الرب الذي أدعو أنا وأخي إليه هو كذا وكذا ، وأما في هذه الآية فقد سئل عن أمر يرجع إلى القرون الأولى والذي يصفه هو موسى فكان المعنى الرب الذي أصفه عليم بها ، والذي يفيد هذا المعنى هو « رَبِّي » لا غير فتأمل فيه فهو لطيف.
والنكتة في « رَبِّي » الثاني هي نظيرة ما في « رَبِّي » الأول وفي كونه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر تأمل لفصل الجملة.
وقد اختلفت أقوال المفسرين في تفسير الآيتين بالوجوه والاحتمالات اختلافا كثيرا أضربنا عن ذكرها لعدم جدوى فيها ومن أعجبها قول كثير منهم أن قول فرعون لموسى : « فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى » سؤال عن تاريخ الأمم الأولى المنقرضة سأل موسى عن ذلك ليصرفه عن ما هو فيه من التكلم في أصول المعارف الإلهية وإقامة البرهان على صريح الحق في مسائل المبدأ والمعاد مما ينكره الوثنية ويشغله بما لا فائدة فيه من تواريخ الأولين وأخبار الماضين ، وجواب موسى : « عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي » إلخ ،