وأفسد من ذلك قوله : إن المخاطب الأول بهذا النهي رسول الله صلىاللهعليهوآله والسابقون الأولون ولم يكونوا مظنة للانقطاع إلى ظلمة المشركين والانحطاط في هواهم والرضا بأعمالهم إلخ فإن فيه أولا : أن الخطاب خطاب واحد موجه إليه صلىاللهعليهوآله وإلى أمته ، ولا أول فيه ولا ثاني ، وتقدم بعض المخاطبين على بعض زمانا لا يوجب قصور الخطاب عن شمول بعض ما في اللاحقين مما ليس في السابقين إذا شمله اللفظ.
وثانيا : أن عدم كون المخاطب مظنة للمعصية لا يمنع من توجيه النهي إليه وخاصة النواهي الصادرة عن مقام التشريع وإنما يمنع عن تأكيده والإلحاح عليه وقد نهى النبي صلىاللهعليهوآله عما هو أعظم من الركون إلى الذين ظلموا كالشرك بالله وعن ترك تبليغ بعض أوامره ونواهيه ، قال تعالى : « وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ » : الزمر : ٦٥ ، وقال : « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ » : المائدة : ٦٧ ، وقال : « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ » : الأحزاب : ٢ ولا يظن به صلىاللهعليهوآله أن يشرك بربه البتة ، ولا أن لا يبلغ ما أنزل إليه من ربه أو يطيع الكافرين والمنافقين أو لا يتبع ما يوحى إليه من ربه إلى غير ذلك من النواهي.
وكذا السابقون الأولون نهوا عن أمور هي أعظم من الركون المذكور أو مثله كقوله : « وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً » نزلت في أهل بدر وفيهم السابقون الأولون وقد وصف بعضهم بقوله : « الَّذِينَ ظَلَمُوا » وهو أشد لحنا من قوله : « وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا » ، وكعدة من النواهي الواردة في كلامه في قصص بدر وأحد وحنين ، والنواهي الموجهة إلى نساء النبي صلىاللهعليهوآله فكل ذلك مما لم يكن يظن بالسابقين الأولين أن يبتلوا به على أن بعضهم ابتلي ببعضها بعد.
الثالث : أن الآية بما لها من السياق المؤيد بإشعار المقام إنما تنهى عن الركون إلى الذين ظلموا فيما هم فيه ظالمون أي بناء المسلمين دينهم الحق أو حياتهم الدينية على شيء من ظلمهم وهو أن يراعوا في قولهم الحق وعملهم الحق جانب ظلمهم وباطلهم حتى يكون في ذلك إحياء للحق بسبب إحياء الباطل ، ومآله إلى إحياء حق بإماتة حق آخر كما تقدمت الإشارة إليه.