منها ما يقصد به من الغرض والفائدة ولا يختل الحال بتلاشي الأصل وتفاسد الأجزاء وتزاحمها يقال : دبر أمر البيت أي نظم أموره والتصرفات العائدة إليه بحيث أدى إلى صلاح شأنه وتمتع أهله بالمطلوب من فوائده.
فتدبير أمر العالم نظم أجزائه نظما جيدا متقنا بحيث يتوجه به كل شيء إلى غايته المقصودة منه وهي آخر ما يمكنه من الكمال الخاص به ومنتهى ما ينساق إليه من الأجل المسمى ، وتدبير الكل إجراء النظام العام العالمي بحيث يتوجه إلى غايته الكلية وهي الرجوع إلى الله وظهور الآخرة بعد الدنيا.
وقوله : « يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ » ظاهر السياق أن المراد بالآيات هي الآيات الكونية فالمراد بتفصيلها هو تمييز بعضها من بعض وفتقها بعد رتقها ، وهذا من سنته تعالى يفصل الأشياء ويميز كل شيء من كل شيء ويخرج من كل شيء ما هو كامن فيه مستخف في باطنه فينفصل به النور من الظلمة والحق من الباطل والخير من الشر والصالح من الطالح والمثيب من المجرم.
ولذا عقبه بقوله : « لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ » فإن يوم اللقاء هو الساعة التي سماها الله بيوم الفصل ووعد فيه تمييز المتقين من المجرمين والفجار قال : « إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ » : الدخان ٤٠ ، وقال : « وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ » : يس : ٥٩ ، وقال : « لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ » : الأنفال : ٣٧.
والأشهر عند المفسرين أن المراد بالآيات آيات الكتب المنزلة من عند الله فالمراد بتفصيلها لغرض كذا شرحها وكشفها بالبيان في الكتب المنزلة على أنبياء الله ليتدبر فيها الناس ويتفكروا ويفقهوا فإن في ذلك رجاء أن يوقنوا بلقاء الله تعالى والرجوع إليه وما قدمناه من المعنى أوضح لزوما وأمس بالسياق.
وفي قوله : « لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ » ولم يقل : لعلكم بلقائه ، وضع الظاهر موضع المضمر والوجه فيه الإصرار على تثبيت الربوبية والتأكيد له والإشارة إلى أن الذي خلق العالم ودبر أمره فصار ربا له هو رب لكم أيضا فلا رب إلا رب واحد لا شريك له.
قوله تعالى : « وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً » إلى آخر الآية