بعناية أنه أذن في نسبة الأمور إلى مصادرها والأفعال إلى فواعلها وملكها إياها بنحو من التمليك وهي فاقدة للإصالة والاستقلال في التأثير والله سبحانه هو السبب المستقل القاهر لكل سبب الغالب عليه فمن الرشد إذا أراد الإنسان أمرا وتوصل إليه بالأسباب العادية التي بين يديه أن يرى الله سبحانه هو السبب الوحيد المستقل بتدبير الأمر وينفي الاستقلال والأصالة عن نفسه وعن الأسباب التي استعملها في طريق الوصول إليه فيتوكل عليه سبحانه. فليس التوكل هو قطع الإنسان أو نفيه نسبة الأمور إلى نفسه أو إلى الأسباب بل هو نفيه دعوى الاستقلال عن نفسه وعن الأسباب وإرجاع الاستقلال والأصالة إليه تعالى مع إبقاء أصل النسبة غير المستقلة التي إلى نفسه وإلى الأسباب.
ولذلك نرى أن يعقوب عليهالسلام فيما تحكيه الآيات من توكله على الله لم يلغ الأسباب ولم يهملها بل تمسك بالأسباب العادية فكلم أولا بنيه في أخيهم ثم أخذ منهم موثقا من الله ثم توكل على الله وكذا فيما وصاهم في الآية الآتية بدخولهم من أبواب متفرقة ثم توكله على ربه تعالى.
فالله سبحانه على كل شيء وكيل من جهة الأمور التي لها نسبة إليها كما أنه ولي لها من جهة استقلاله بالقيام على الأمور المنسوبة إليها وهي عاجزة عن القيام بها بحول وقوة ، وأنه رب كل شيء من جهة أنه المالك المدبر لها.
ومعنى الآية : « قالَ » يعقوب لبنيه : « لَنْ أُرْسِلَهُ » أي أخاكم من أم يوسف « مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ » وتعطوني « مَوْثِقاً مِنَ اللهِ » أثق به وأعتمد عليه من عهد أو يمين « لَتَأْتُنَّنِي بِهِ » واللام للقسم ولما كان إيتاؤهم موثقا من الله إنما كان يمضي ويفيد فيما كان راجعا إلى استطاعتهم وقدرتهم استثنى فقال « إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ » وتسلبوا الاستطاعة والقدرة « فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ » من الله « قالَ » يعقوب « اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ » أي إنا قاولنا جميعا فقلت وقلتم وتوسلنا بذلك إلى هذه الأسباب العادية للوصول إلى غرض نبتغيه فليكن الله سبحانه وكيلا على هذه الأقاويل يجريها على رسلها فمن التزم بشيء فليأت به كما التزم وإن تخلف فليجازه الله وينتصف منه.
قوله تعالى : « وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ » إلى آخر الآية ، هذه كلمة ألقاها يعقوب عليهالسلام إلى بنيه حين آتوه موثقا من الله وتجهزوا