فقوله : « وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي » إشارة إلى قوله : « أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ » وأنه لم يقل هذا القول بداعي تنزيه نفسه وتزكيتها بل بداعي حكاية رحمة من ربه ، وعلل ذلك بقوله « إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ » أي إن النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات على كثرتها ووفورها فمن الجهل أن تبرأ من الميل إلى السوء ، وإنما تكف عن أمرها بالسوء ودعوتها إلى الشر برحمة من الله سبحانه تصرفها عن السوء وتوفقها لصالح العمل.
ومن هنا يظهر أن قوله : « إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي » يفيد فائدتين؟.
إحداهما : تقييد إطلاق قوله : « إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ » فيفيد أن اقتراف الحسنات الذي هو برحمة من الله سبحانه من أمر النفس وليس يقع عن إلجاء وإجبار من جانبه تعالى.
وثانيتهما : الإشارة إلى أن تجنبه الخيانة كان برحمة من ربه.
وقد علل الحكم بقوله : « إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ » فأضاف مغفرته تعالى إلى رحمته لأن المغفرة تستر النقيصة اللازمة للطبع والرحمة يظهر بها الأمر الجميل ، ومغفرته تعالى كما تمحو الذنوب وآثارها كذلك تستر النقائض وتبعاتها وتتعلق بسائر النقائص كما تتعلق بالذنوب ، قال تعالى. « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » : الأنعام : ١٤٥ وقد تقدم الكلام فيها في آخر الجزء السادس من الكتاب.
ومن لطائف ما في كلامه من الإشارة تعبيره عليهالسلام عن الله عز اسمه بلفظ « رَبِّي » فقد كرره ثلاثا حيث قال : « إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ » « إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي » « إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ » لأن هذه الجمل تتضمن نوع إنعام من ربه بالنسبة إليه فأثنى على الرب تعالى بإضافته إلى نفسه لتبليغ مذهبه وهو التوحيد باتخاذ الله سبحانه ربا لنفسه معبودا خلافا للوثنيين ، وأما قوله : « وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ » فهو خال عن هذه النسبة ولذلك عبر بلفظ الجلالة.
وقد ذكر جمع من المفسرين أن الآيتين أعني قوله : « ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ » « إلخ » من تمام كلام امرأة العزيز ، والمعنى على هذا أن امرأة العزيز لما اعترفت بذنبها وشهدت بصدقه قالت : « ذلِكَ » أي اعترافي بأني راودته عن نفسه وشهادتي بأنه من الصادقين