إليه تعالى فإن العبد لا يملك من نفسه شيئا إلا بالله ، والله سبحانه هو المالك لما ملكه إياه فإخلاصه دينه ـ وإن شئت فقل : إخلاصه نفسه لله هو إخلاصه تعالى إياه لنفسه.
نعم هاهنا شيء وهو أن الله سبحانه خلق بعض عباده هؤلاء على استقامة الفطرة واعتدال الخلقة فنشئوا من بادئ الأمر بأذهان وقادة وإدراكات صحيحة ونفوس طاهرة وقلوب سليمة فنالوا بمجرد صفاء الفطرة وسلامة النفس من نعمة الإخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد والكسب بل أعلى وأرقى لطهارة داخلهم من التلوث بألواث الموانع والمزاحمات والظاهر أن هؤلاء هم المخلصون ـ بالفتح ـ لله في عرف القرآن.
وهؤلاء هم الأنبياء والأئمة ، وقد نص القرآن بأن الله اجتباهم أي جمعهم لنفسه وأخلصهم لحضرته ، قال تعالى : « وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » : الأنعام : ٨٧ ، وقال : « هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » : الحج : ٧٨.
وآتاهم الله سبحانه من العلم ما هو ملكة تعصمهم من اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي ، وتمتنع معه صدور شيء منها عنهم صغيرة أو كبيرة ، وبهذا يمتاز العصمة من العدالة فإنهما معا تمنعان من صدور المعصية لكن العصمة يمتنع معها الصدور بخلاف العدالة.
وقد تقدم آنفا أن من خاصة هؤلاء القوم أنهم يعلمون من ربهم ما لا يعلمه غيرهم ، والله سبحانه يصدق ذلك بقوله : « سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ » : الصافات : ١٦٠ ، وإن المحبة الإلهية تبعثهم على أن لا يريدوا إلا ما يريده الله وينصرفوا عن المعاصي والله سبحانه يقرر ذلك بما حكاه عن إبليس في غير مورد من كلامه كقوله : « قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ » : ص : ٨٣.
ومن الدليل على أن العصمة من قبيل العلم قوله تعالى خطابا لنبيه صلىاللهعليهوآله « وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً » : النساء : ١١٣ وقد فصلنا الكلام في معنى الآية في تفسير سورة النساء.
وقوله تعالى حكاية عن يوسف عليهالسلام : « قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ » : يوسف : ٣٣ وقد أوضحنا وجه دلالة الآية على ذلك.