على ما تريده منه.
وأما هو فقد استغرق في حب ربه وأخلص وصفي ذلك نفسه فلم يترك لشيء في قلبه محلا غير حبيبه فهو في خلوة مع ربه وحضرة منه يشاهد فيه جماله وجلاله وقد طارت الأسباب الكونية على ما لها من ظاهر التأثير من نظره فهو على خلافها لا يتبجح بالأسباب ولا يركن إلى الأعضاد.
ترى أنها تتوسل عليه بالأسباب بتغليق الأبواب والمراودة والأمر بقولها : « هَيْتَ لَكَ » وأما هو فقد قابلها بقوله : « مَعاذَ اللهِ » فلم يجبها بتهديد ولم يقل : إني أخاف العزيز أو لا أخونه أو إني من بيت النبوة والطهارة أو إن عفتي أو عصمتي تمنعني من الفحشاء ، ولم يقل إني أرجو ثواب الله أو أخاف عذابه إلى غير ذلك ، ولو كان قلبه متعلقا بشيء من الأسباب الظاهرة لذكره وبدأ به عند مفاجأة الشدة ونزول الاضطرار على ما هو مقتضى طبع الإنسان.
بل استمسك بعروة التوحيد وأجاب بالعياذ بالله فحسب ولم يكن في قلبه أحد سوى ربه ولا تعدى بصره إياه إلى غيره فهذا هو التوحيد الخالص الذي هدته إليه المحبة الإلهية وأولهه في ربه فأنساه الأسباب كلها حتى أنساه نفسه فلم يقل إني أعوذ منك بالله أو ما يؤدي معناه ، وإنما قال « مَعاذَ اللهِ » وكم من الفرق بين قوله هذا وبين قول مريم للروح لما تمثل لها بشرا سويا : « إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا » : مريم : ١٨.
وأما قوله لها ثانيا : « إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » فإنه يوضح كلمة التوحيد الذي أفاده بقوله : « مَعاذَ اللهِ » ويجليه ، يقول : إن الذي أشاهده أن إكرامك مثواي عن قول العزيز لك « أَكْرِمِي مَثْواهُ » فعل من ربي وإحسان منه إلي فربي أحسن مثواي وإن انتسب إليك ذلك بوجه فهو الذي يجب علي أن أعوذ به وألوذ إليه ، وإنما أعوذ به لأن إجابتك فيما تسألين وارتكاب هذه المعصية ظلم ولا يفلح الظالمون فلا سبيل إلى ارتكابه.
فقد أفاد عليهالسلام بقوله : « إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ » أولا : أنه موحد لا يرى شرك الوثنية فليس ممن يتخذ أربابا من دون الله كما تقول به الوثنية يتخذون مع الله أربابا أخرى ينسبون إليهم تدبير العالم بل هو يقول بأن الله هو ربه لا رب سواه.