بين في مواضع من كلامه أن بعض ما يوحيه لرسله من الغيب ، كقوله تعالى : « عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ » ، : ( الجن : ٢٦ ) وكقوله بعد سرد قصة يوسف : « ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ » : ( يوسف : ١٠٢ ) وقوله في قصة مريم : « ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ » ( آل عمران : ٤٤ ) وقوله بعد قصة نوح : « تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا » : ( هود : ٤٩ ).
فالمراد بنفي علم الغيب نفي أن يكون مجهزا في وجوده بحسب الطبع بما لا يخفى عليه معه ما لا سبيل للإنسان بحسب العادة إلى العلم به من خفيات الأمور كائنة ما كانت.
وأما قوله : « وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ » فهو كناية عن نفي آثار الملكية من أنهم منزهون عن حوائج الحياة المادية من أكل وشرب ونكاح وما يلحق بذلك ، وقد عبر عنه في مواضع أخرى بقوله : « قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ » : ( الكهف : ١١٠ ) وإنما عبر عن ذلك هاهنا بنفي الملكية دون إثبات البشرية ليحاذي به ما كانوا يقترحونه عليه صلىاللهعليهوآله بمثل قولهم : « ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ » : ( الفرقان : ٧ ).
ومن هنا يظهر أن الآية بما في سياقها من النفي بعد النفي ـ كأنها ـ ناظرة إلى الجواب عما كانوا يقترحونه على النبي صلىاللهعليهوآله من سؤال الآيات المعجزة والاعتراض بما كان يأتي به من أعمال كأعمال المتعارف من الناس كما حكاه عنهم في قوله : « وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ، أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها » : ( الفرقان : ٨ ) وقوله : « وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً ، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ـ إلى أن قال ـ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً » : ( الإسراء : ٩٣ ) وقوله : « فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ » ( الإسراء : ٥١ ) ، وكقوله : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها » : ( الأعراف : ١٨٧ )