الصناعة ، والتعاقب ، والمحتَسَب ، إلى أشياء اقتضبتها من الأشعار الفصيحة ، والخطب الغريبة الصحيحة.
هذا جميع ما اشتمل عليه كتابنا « المُحْكَم » ، وهو فى هذه الصناعة « المحيطُ الأعظم » قد دَبَّجْتُ فِتانه (١) ، وأدْمَجْت مِتانَه ، وشَكَّلت آسانَه (٢) ، ووكَّلْت بالإعراب عنه لِسانه ، وأبرزتُه للدَّهر مفتخرا ، وبذلت فيه من مكنون علمى ما كُنْتُ له مُدّخِرا ، حِذارا أن يَطْوِينى ضَرِيحى ، وتَتَلَمَّأ (٣) علىَّ تُرْبتى وصَفيحى ، فرأيتُ تركه شِياعا ، خيرا من أن يذهب فى صدْرِى ضَياعا ، ثم أهديته إلى ذوى الألباب ، مُونِقا لمُقَلِهم ، ومُطْلِقا لعُقَلِهم ، مُنْشِرا لما دَثَر مِن أفهامهم ، وباعثا لما همدَ من نار أوهامهم ، يَرِدُون مُتون أصْواحِه (٤) عَذْبةَ الجِمام (٥) ، ويستظلون غُصون أدْواحه مُطْرِبة الحَمام ، يتعلَّلون منه بخمر وريق ، ويَسْرَحون من مُلَحه فى بُسْتان زاهر وَرِيق ، فإن كافئوا بالحمد ، ولم يُجَلِّلوا النِّعمة بُرودَ الجَحْد ، فقد أنصفوا من نفوسهم ، ولم يَكْسِفوا بذلك من أقمارهم ، ولا شموسهم ؛ وإن تكن الأخرى ، فربّ غامط لنعمة الله التى هى أسبغُ أذيالا ، وأسوغُ أَغْيالا (٦) ، وأمدُّ ظِلّا ، وأذكى من سماء كل نعمة وابلا وطَلَّا (٧) :
ومِنِّى استَفادَ النَّاسُ كلَّ غَريبةٍ |
|
فجازُوا بتركِ الذَّمّ إنْ لم يكنْ حمدُ (٨) |
ولينظروا نحوى ، فمن أبصر فقلَّما تخفى ذُكاء ، ومن عَشِىَ فعاذر ألا ترانى مُقْلة عَمْياء ؛ ولله قولُ أبى الطَّيِّب :
ولقَدْ عَلوْتَ فمَا تُبالى بَعْدَ ما |
|
عَرَفُوا أَيحْمَدُ أمْ يَذُمُّ القائِلُ (٩) |
وإنْ أَلْوَى بهمُ الأشَر ، وقد سبقت مِنِّى إليهمُ الفِقَر ، فما علىّ أن تفهم البَقَر ؛ وإن تعسَّف منهم جاهل علينا ، أو تَترَّع (١٠) منهم هَدِمُ الجَفْر (١١) إلينا قبل أن يَرُوز (١٢) الخِبرَة ،
__________________
(١) الفَتْن : الضرب واللون والحال والفن.
(٢) آسان الرجل : مذاهبه وأخلاقه ، أى شكلت مذاهبه.
(٣) تلمَّأت به الأرض : اشتملت واستوت.
(٤) الصواح : النجوة من الأرض ، أى المرتفع منها ، وقبل : الصواح : الرخوة من الأرض.
(٥) جَمَّ الشىء واستجم كلاهما : كثر ، وجَمُّ لماء : معظمه إذا ثاب ، وكذلك جمته ، وجمعها جِمام وجُمُوم.
(٦) الغَيْل : الماء الجارى على وجه الأرض ، ومكان من الغيضة فيه ماء معين ، وكل موضع فيه ماء من واد ونحوه.
(٧) الطل : المطر الصغار القطر الدائم ، وهو أرسخ المطر ندى.
(٨) البيت لأبى الطيب المتنبى فى ديوانه ( ١ / ٢٥٣ ).
(٩) البيت لأبى الطيب المتنبى فى ديوانه ( ١ / ٢٢٥ ).
(١٠) تترَّع : تسرّع.
(١١) يقال للرجل الذى لا عقل له : إنه لمنهدم الحال ومنهدم الجفر.
(١٢) رازه يروزه رَوْزًا : جرب ما عنده وخبره.