أما بعد : أيُّها المُسْهِرُ طلبُ العلم لجفونه ، الكاتبُ لحُور عُيونه ، الراتعُ منه فى أزاهير فُنونه ، فإنى أقول لك هَنيئاً ، فقد أوتِيتَ بَغيَّتك ؛ وشُكرا ، فقد مُلِّكتَ أُمنيَّتك ؛ إنَّ النِّعمة قلوصٌ يُنِدُّها عن صاحبها الكفر (١) ، ويُذَلِّلها لراكبها الشُّكْر ، لَشَدَّ ما وَرَدْتَ مَنهل إرادَتِك صافيا ، وأُلبِستَ ما أعجز رَيعانَ أُمْنيَّتك ضَافيا (٢) ، وكلٌّ بيمن « الموفق » مُحيى المكارم ، ومُروِى الأسنَّة والصوارم ، زينِ الزّمان وتاجِه ، وعينِ الأوان وسِراجه ، سيِّدِ جميع الأملاك ، ومُعيدِ زمن العدْل إليه بعد الهلاك ، مُطْلعِ العلوم لنا نجوما وأهِلَّة ، ومُرْسِلِ المكارم علينا غُيوماً مُسْتَهِلَّة ، قد ملأ البلادَ عدلُه مَقادِم (٣) صَباح ، ومَدَّ على العباد من فضله قَوَادِمَ (٤) جَناح ، حتى بَشَّرتْ لِقاحُ طُعَمِهِم (٥) ، وتَمَشَّرَتْ (٦) خِصبا أدواحُ نِعَمهم ، فلا فقير إلا مجبور ، ولا غنىّ إلا موفور مَحْبورٌ ، ولا شاكرَ إلا مُسْهِب ، ولا ذاكرَ إلا مُجِدٌّ مُطْنِب ، من بين ذى كَفٍّ إلى الله فيه ممدودة ، ولسانٍ بحُسن الثناء عليه مَرْدودة ، تخدُمه أنفسهم بالصفاء ، وألسنتهم بحُسن الثناء له والدعاء ، إن نام باتُوا له هاجدين ، أو قام وَقَعُوا له ساجدين ، أدام الله لهم وارِف ظلِّه ، ولا سَلَبهم عَوارفَ فضله ، وأخذ الجميعَ منهم فِداءَه ، وقدَّم فى ذلك قبلَ أوليائه أعداءَه ، وحفظ مُلكه بصِوان (٧) السَّعادة ، وقَرنَ كلَّ عَزْمة له بمختار الإرادة ، وكَبَتَ عنه بالنُّصرة مُسْتَهْدِفى عُداه (٨) ، وحَكَّم فيهم نوافذ أسنَّته ، ومواضِىَ مُداه ، وجعله وارثاً لجَلْهات (٩) بلادهم ، ومتكفِّلا بعد الصَّيْلم المُوتِمة لترائِك أولادهم (١٠) ؛ شكرا له أيُّها النَّهِيمُ على محاسن العلوم ، الباحث عن نتائج مقدّمات الحُلوم (١١) ، فما أسلمَك للواحق الزّمان ، ولا خَلَّى بينك وبين طوارق الحَدَثان (١٢) ، بل كَفاكَ ما كان يُنازعُك
__________________
(١) القَلوص : الفتية من الإبل ، والقَلوص : أنثى الحبارى ، وندّ البعير ؛ إذا شرد ، وندت الإبل : نفرت ، وذهبت شروداً : والمعنى : إن النعمة كالدابة تذهب عن صاحبها بسبب كفره.
(٢) ضفا يضفو : كثر.
(٣) قادم الإنسان : رأسه ، الجمع : القوادم ، وهى المقادم ، وأكثر ما يتكلم به جمعاً.
(٤) القوادم : أربع ريشات فى مقدم الجناح ، الواحدة : قادمة ، وقيل : قوادم الطير مقاديم ريشه ، وهى عشر فى كل جناح.
(٥) الطَّعَم : جمع الطُّعْمة وهى المأكلة ، وجمع الطُّعْمة وهى شبه الرزق.
(٦) تمشر الشجر إذا أصابه مطر فخرجت ورقته.
(٧) الصِّوان والصُّوان : ما صنت به الشىء.
(٨) العدو : ضد الصديق ، وأما عِدىً وعُدىً فاسمان للجمع.
(٩) الجلْهة : فم الوادى ، وقيل : جانبه.
(١٠) الصيلم : الداهية ؛ والأمر المستأصل ، التريكة : البيضة بعدما يخرج منها الفرخ ؛ والجمع : ترائك.
(١١) الحِلْم بالكسر : الأناة والعقل وجمعه أحلام وحُلوم.
(١٢) حدثان الدهر وحوادثه : مصائبه.