دروس في الأخلاق

الشيخ علي المشكيني

دروس في الأخلاق

المؤلف:

الشيخ علي المشكيني


الموضوع : الأخلاق
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مطبعة الهادي
الطبعة: ٥
ISBN: 964-400-023-4
الصفحات: ٢٧٩
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

دروس في الأخلاق ـ المشكيني

١
 &

دروس في الأخلاق ـ المشكيني

٢
 &

دروس في الأخلاق ـ المشكيني

٣
 &

دروس في الأخلاق ـ المشكيني

٤
 &

دروس في الأخلاق ـ المشكيني

٥
 &

دروس في الأخلاق ـ المشكيني

٦
 &

بسم الله الرحمن الرحيم

ألحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمدٍ وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

وبعد : الكتاب يشتمل على مقدّمة ودروس وخاتمة.

أمّا المقدّمة : ففي بيان أمور :

الأمر الأوّل : في الاشارة الاجماليّة إلى موضوع علم الأخلاق ومسائله والغرض منه.

أمّا الموضوع : فهو الإنسان لا من حيث أنّه شيء واقع تحت عنوان الوجود ، فإنّ البحث عنه من هذه الجهة يقع في علم المعقول ، ولا من حيث جسمه وبدنه وعروض الصّحة والمرض عليه مثلاً ، فإنّ البحث عنه من هذه الجهة ، محلّه علم الطّب ، بل ولا من حيث سائر جهاته الموجودة فيه ، فإنّ الإنسان من حيث أنّه حيوان ناطق ذو إدراك وشعور ، وتفكّر وتعقّل موجود عجيب ومكوّن غريب ، له حيثيّات ذاتيّة

٧
 &

وعرضيّه مختلفة وأبعاد وجوديّة متكثّرة وقع البحث عن جُلِّها لو لا كلّها في علوم مختلفة وفنون عديدة.

بل الموضوع في علم الأخلاق المرسوم لدى المتشرّعة هو الإنسان من حيث نفسه وروحه ، وبعبارةٍ أخرى هو نفس الإنسان من حيث اتّصافها بصفات مختلفة ، حسنة أو قبيحة ، وملكات كثيرة ، مذمومة أو ممدوحة ، منها ما هو ذاتيّة موهوبية : ومنها ما هو عرضية إكتسابية.

ومسائله : الأبحاث الواقعة حول تلك الصفات والملكات ، وما يقع من الفحص والتحقيق في تبيين حقائقها وروابطها ، وانشعاب بعضها عن بعضٍ ، وعلل حصولها وطرق تحصيلها ، وكيفيّة زوالها وإزالتها ، وما يقع من الكلام في تمييز فضائلها عن رذائلها ، وحفظ كرائمها التي أودعها الله تعالى في الإنسان أو حصلها بنفسه ، وتحصيل ما لم يكن واجداً له من الفضائل ، وإزالة ما اتّصف به من الرذائل طبعاً أو اكتساباً.

والغرض منه : تكامل الإنسان وتعاليه ، وتمامية مكارم أخلاقه ونيله إلى مراتبه التي خلقه الله تعالى لأجل الوصول إليها ، وتخلّقه بأخلاق الله تعالى ، وتأدّبه بآداب رسله وأوصيائه لكي يتقرّب إلى ربّه ويسعد في الدنيا والآخرة بدنوّه وقربه لأن يبعثه ربّه مقاماً محموداً ويلحقه بالأبرار والمتّقين ، ويكون في الآخرة مع النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، فما أجلّ غاية هذا العلم و أعلاها ، وما أثمنها وأغلاها ، ألا وهي نهاية المنى والغاية القصوى ، وليس للانسان وراء ذلك منتهى ، ألا وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وليرغب

٨
 &

الراغبون.

ثّم ليعلم أنّه ليس الغرض : تأليف كتاب في علم الأخلاق على وتيرة ما ألفه فيه علماؤنا الأخيار قدس‌سره فإنّهم قد اهتمّوا ببيان أصول السجايا والطبائع ، وقسمتها قسمة أولية إلى أقسام أربعة ، ثمّ ذكر الانقسامات الثانوية الطارئة عليها وهكذا ، وبيان كيفية تولد بعضها عن بعض وانشعاب بعضها عن بعض. وقد أقلّ بعض المؤلفين عند ذكر نفس الصفة من إيراد الآيات والنصوص فيها ، أو ذكر فيما أورد ما لم يثبت عندنا صحّته من الأخبار ، لكنّا أعرضنا عن تلك المراحل فذكرنا عند بيان كلّ فضيلة ورذيلة بحثاً إجماليّاً شارحاً لحقيقتها ، ثمّ أوردنا فيه من الكتاب الكريم والسنّة المأثورة عن النبي الأقدس وأهل بيته المعصومين عليهم‌السلام مقداراً غير مخلٍّ للغرض لقلّته ، وغير مملٍّ لكثرته ، واعتمدنا في إيضاح حقيقة الصفة المبحوث عنها وعلل وجودها وآثارها الدنيوية والأخرويّة على ما تستفيده ألباب القارئين وأفكار الباحثين من النصوص الواردة فإنّ في قول الله تعالى وكتابه الناطق وكلام نبيّه الصادق وأهل بيته عليهم‌السلام غنىً وكفايةً عن بحث الباحثين وتقريظ الواصفين ولذلك سمّيناه بـ « دروس في الأخلاق » لا تأليفاً في علم الأخلاق. ونشكره تعالى عدد ما يبلغ رضاه على أن عرّفنا نفسه بعرفان ما تيسّر فهمه لعقولنا من صفات جلاله وجماله ، وعلى أن عرّفنا ملائكته القائمين بتدبير أمر العالم من السماء إلى الأرض بإرادته ، وعرّفنا أنبيائه ورسله ، ولا سيّما خاتم رسله ، وألهمنا الاذعان بما اُنزل عليهم من كتبه وشرائعه ، وعلّمنا كتابه المصدّق لما بين يديه من الكتب والمهيمن

٩
 &

عليه ، وعرّفنا أوصياء نبيّه لا سيما خاتمهم وقائمهم والمستور عن عوالمهم ولم يجعل موتنا ميتةً جاهليّةً ، ورزقنا معرفة كلامه وسنّة نبيّه وأحاديث أوصيائه المعصومين ، كلّ ذلك بمقدار ما تيسّر على عقولنا فهمه وعلى ألبابنا دركه ، فإنّه تعالى أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها ، فحمداً له كثيراً على آلائه ، وشكراً له وافراً على نعمائه ، وأنّى لنا بأداء شكره ، والشكر له يحتاج إلى شكر ، وكلّما قلنا : له الحمد وجب أن نقول لذلك : له الحمد.

الأمر الثّاني : أنّه تتعسّر أو تتعذّر للانسان معرفة مسائل علم الأخلاق وتميّز محاسن صفات الإنسان عن مساويها بتحصيلها من غير الطرق التي عيّنها خالقه وبارئه ومبدعه ومصوّره ومودع الطبائع والسجايا فيه ، وهي الطرق التي أوحاها إلى أنبيائه عليهم‌السلام بإبلاغ دينه وشرائعه ، فقد بيّن فيها ما هو كمال النفوس الانسانّية وما هو جمالها وجلالها ، وما يكون موصلاً لها إليه من الأصول الاعتقاديّة والفروع العملية ، وذلك لأنّه لا يعرف الإنسان كما يليق بذاته واستعداده ، ولا يقدر على تربيته وإيصاله إلى كماله الحريّ بشأنه إلّا أنبيائه وأوصيائه الذين خلقهم الله لرحمته واصطنعهم لنفسه ، واصطفاهم لسفارة خلقه وهداية عباده ، ليكلّموهم بتعليم الأصول والعمل بالفروع حتّى تتمّ لهم مكارم الأخلاق.

وقد علم بذلك أنّ جميع ما تحويه الشرائع السماويّة من القوانين الدخيلة في تربية الإنسان ترجع إلى أمور ثلاثة : الأصول الاعتقاديّة :

١٠
 &

وهي الأحكام المتعلّقة بالعقائد الباطنيّة ، وموضوعها النفس من حيث عقلها النّظري. والأحكام الفرعيّة والشرائع العمليّة التكليفيّة والوضعيّة ، وموضوعها النفس من حيث عقلها العمليّ. والأحكام الأخلاقية والشرائع النفسيّة. وموضوعها النفس من حيث صفاتها وملكاتها كما عرفت. وهذا القسم ـ مضافاً إلى كونه ملحوظاً بالاستقلال في المراحل التربويّة ـ يكون كالغرض والغاية للقسمين الآخرين أيضاً كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بُعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق » (١) وهذا هو المبحوث عنه في المقام.

الأمر الثّالث : أنّه ينبغي أن نقول في توضيح موضوع البحث : إنّ هنا موجوداً غير هذا الجسم المرئيّ ينسب إليه الشعور والعقل والعزم والارادة ، ويشار إليه بكلمة « أنا » و « أنت » وتسند إليه أمور ليست من عوارض الجسم وصفاته في قول الشخص : علمت وفهمت وأردت وكرهت وأحببت وأبغضت ونحوها. وبتقارن هذا الجوهر للجسم وازدواجه به يتحقّق مصداق لقوله تعالىٰ : ( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ) (٢) في الدنيا ، كما يتحقّق مصداق له أيضاً بازدواجه به بعد الحياة في عالم الآخرة. وبهذا التقارن يصير الجسم خلقاً آخر كما يشير إليه قوله تعالى : ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) (٣) أي : بعد تمام الأربعة الأشهر للجنين في

____________________________

١) نص النصوص : ص ٧١ ـ المحجة البيضاء : ج ٤ ، ص ١٢١ ـ بحار الأنوار : ج ٧٠ ، ص ٣٧٢ ـ ج ٧١ ، ص ٣٧٣ و ٣٨٢ ـ مرآة العقول : ج ٧ ، ص ٣٤٧.

٢) التكوير : ٧.

٣) المؤمنون : ١٤.

١١
 &

الرحم نفخنا فيه الروح فصار بذلك خلقاً آخر غير سابقه ، وهو صيرورته إنساناً ، ومن شأن هذا الموجود الحالّ أنّ له تسلّطاً تامّاً على الجسم ، تصدر حركاته بمشيئته وأفعاله بإرادته.

بل الإنسان في الحقيقة عبارة عن هذا الموجود المقارن الحالّ ، وأمّا المحلّ فهو كقرينه وجليسه ، ومن معدّات بقائه في الدنيا ودوامه. ولذلك قال تعالى : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (١) فإنّ المخاطب في الآية الشريفة هو الإنسان بحقيقته ، وهو الذي يتوفّاه الملك ويأخذه إلى ربّه ، والباقي بعده لباس خلعه ورماه وغلاف تركه وألقاه ، ومن هنا يمكن أن يقال : إنّ ما ذكر في الكتاب العزيز من عنوان الإنسان والبشر وبني آدم والناس وكذا أسماء إشاراتهم وضمائر الغيبة والخطاب الراجعة إليهم لا يراد به إلّا هذا الموجود ، ولا ينطبق إلّا عليه ، فيكون ما نسب إلى تلك العناوين من الأعمال والأفعال والصفات ونحوها منسوباً إليه.

وهذا الموجود وإن لم ينكشف لنا إلى الآن حقيقته وماهيته إلّا أنّه قد أشير في الآيات والنصوص إلى جملة من أبعاده وأطرافه ، وشئونه وأوصافه فترى فيهما تعابير كثيرة ناطقة عن أحواله حاكية عن آثاره : كالروح والقلب والعقل والنفس وغيرها كما مرّ بعضها ويأتي بعضها الآخر.

الأمر الرابع : لا بدّ أن نشير في المقام على حسب اقتضائه إلى شيءٍ من الآيات الكريمة ونصوص أهل البيت عليهم‌السلام ممّا فيه تبيان لحقيقة النفس

____________________________

١) السجدة : ١١.

١٢
 &

والقلب وبدء تكوّنها وكيفيّة خلقتها وممّا فيه إيضاح لصفاتها وأفعالها وآثارها ، ليكون الباحث الفاحص عن نفسه وملكاتها المريد لإصلاحها وتزكيتها وحيازة سعادتها وإزالة شقاوتها على بصيرةٍ من أمره.

فنقول : قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ) (١). الآية الشريفة : إمّا مسوقة لبيان خلق جسم الإنسان بدنه كما عليه أكثر المفسّرين فالمعنى : أنّ الله تعالى ابتدأ بخلق نوع الإنسان بإيجاد فردٍ منه أو أفرادٍ ، فخلقه من أجزاء الأرض مخلوطةً بالماء مسمّاةً « بالسلالة » فقوله : ( مِنْ طِينٍ ) بيان لسلالةٍ ، أي : من سلالةٍ هي الطين ، وهذا المخلوق هو : آدم وحوّاء ، أو هما مع عدّة ذكورٍ وإناثٍ ليكونوا أزواجاً لأوّل أولاد آدم وحوّاء ويتولّد سائر الأفراد منهم بالزواج والتناسل ، ويتحقّق معنى قوله : ( ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً ).

وإمّا مسوقة لبيان خلق روحه التي هي الإنسان حقيقةً ، فالمراد من الإنسان : روحه ، ومن السلالة : جسمه ، وكلمة « من » في الموردين نشويّة ، ومعنى الآية الشريفة : إنّا خلقنا الروح الانسانّية من جسمه وخلقنا جسمه من طين. وعلى هذا فكلمة : « ثمّ » للتراخي في الذكر والاشارة إلى كيفيّة تكوّن الجسم من الطين والوساطة الواقعة بين الطين والجسم الحيّ ، وهذا في المثل نظير الدهن الصافي اللطيف الحاصل من الزيتون واللوز المخلوقين من الأرض بواسطة الشجر. ويشير إلى هذا النحو من خلقة الإنسان ما قد يقال : إنّ الروح جسمانيّة الحدوث وروحانيّة البقاء ، بمعنى : أنّها موجود لطيف تكوّنت من الجسم ، وهي

____________________________

١) المؤمنون : ١٢ ـ ١٣.

١٣
 &

باقية أبداً شبه المجرّدات ، فالآية الشريفة على هذا المعنى تبيّن معنى الروح والنفس الانسانيّة وتشير إلى مبدء خلقها.

وقال تعالى : ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) (١).

النطفة في اللغة : الماء ، أو القليل منه أو الصافي منه ، والمراد هنا : نطفة الرجل والمرأة ، والأمشاج ـ جمع مشج بالفتح فالسكون أو بفتحتين ـ أي المختلط من شيئين أو أشياء ، فمقتضى كلمة الجمع تركّب النطفة من أشياء كثيرة ، والابتلاء : نقل الشيء من حال إلى حالٍ ، أو بمعنى : الامتحان والاختبار. والظاهر أنّ الآية الشريفة في مقام بيان كيفيّة خلق الإنسان ومبدئه ومنتهاه ، والمعنى : أنّ الله خلق الإنسان من مادّةٍ ممتزجة من عناصر كثيرة جدّاً ، لكلٍّ منها إقتضاء وتأثير يدعوا صاحبه للحركة نحوه ، ويقتضي جريه على وفقه ، فتتعارض وتتمانع العناصر في مقام اقتضائها وتجاذبها التكوينيّ ، وحيث أنّه قد أودع الله تعالى في وجوده قوّة عاقلة مائزة بين الخير والشّر يكون جريه على وفق أيّ مقتضٍ وداعٍ بإرادته واختياره فيحصل الابتلاء والامتحان. فقوله : ( نَبْتَلِيهِ ) في مقام التعليل لتركيب الأجزاء المختلطة ، وأنّ المزج لغرض ذلك الابتلاء.

وتفريع قوله : ( فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) لبيان أنّ مجرّد وجود تلك القوّة وكونها مستعدّةً للعلم والإدراك غير كافٍ في تحقّق الابتلاء ، بل اللازم اهتداؤها من الخارج نحو ما تحتاج إليه ويصلحها من العلوم

____________________________

١) الدهر : ٢ ـ ٣.

١٤
 &

والمعارف ، وحيث أنّ أوسع الطرق المجعولة لارتباطها مع الخارج السمع والبصر خصّهما بالذكر.

وفي قوله : ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ) الخ ، بيان أنّ الله قد هداها إلى خيرها وشرّها بإرائة شواهد الوجود وآيات الآفاق والأنفس ، وإبلاغ دعوة الأنبياء وعرض الكتاب والشريعة. فقد تحصّل من الآية الشريفة : أنّ هنا موجوداً مخلوقاً من موادّ مختلفة ( ولعلّها هي السلالة من الطين ) قد أودع الله فيه صفات وملكات ووهبه قوّةً بها يدرك نفسه ويعرف صفاته وملكاته ، ويجري أينما جرىٰ بإرادته واختياره فهو إمّا شاكر أو كفور. وهذا الموجود هو الجوهر اللطيف الذي كنّا بصدد تعريفه وأخذه موضوعاً للعلم من حيث أوصافه وسجاياه.

وقال تعالى : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا‏ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (١) أي : أقسم بالنفس وبمن خلقها وصنعها وأفهمها عصيانها وطاعتها ، فالآية تشير إلى أنّ هنا موجوداً مسمّىً بالنفس صنعه الله تعالى وأنشأه ، ومن شؤونه وأحواله أنّ الخالق أعلمها قبائح الأمور التي تخرجها عن الاستقامة ، وألهمها طريق تحفّظها واتّقائها عن القبائح.

وهذا الإلهام إمّا بإعطاء العقل المدرك للحُسن والقبح ، أو إرسال الرسل والكتب والشرائع ، أو بكلا الأمرين كما قال تعالىٰ : ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) أي : الطريقين ، طريق الخير وطريق الشرّ ، فهداه إلى الطريقين بحجّتين.

وقال تعالى : ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) (٢). هذا

____________________________

١) الشمس : ٧ ـ ٨.

٢) يوسف : ٥٣.

١٥
 &

نقل كلام عن إمرأة العزيز بمصر أو عن يوسف النّبي عليه‌السلام وفيه : توصيف النفس وتعريفها بأنّها كثيرة الأمر بالسوء وذلك لأجل اقتضاء طبعها ووجود غرائز مختلفة فيها فتدلّ الآية على أنّ هنا موجوداً متسلّطاً على الإنسان يأمره وينهاه. فالآمر هو النفس باعتبار اقتضاء غرائزها المودعة فيها والمأمور هو النفس أيضاً باعتبار جريها على طبق اقتضاء غرائزها.

وقال تعالى : ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ). (١) أقسم الله تعالى بالنفس ووصفها بكثرة اللوم. ولله تعالى أن يقسم بما أراد من خلقه وليس لعباده إلّا أن يقسموا بذاته وصفاته ، ولكنّ أقسامه تعالى بأيّ شيءٍ يكشف عن وجود قداسةٍ وخيرٍ في المقسم به. فيمكن أن يراد بالنفس هنا : المتّقية التي تلوم نفسها أبداً على تقصيرها في طاعة ربّها وإن كانت عاملةً ناصبةً ، أو تلوم غيرها من الناس مخالفة الله تعالى وعصيانهم ، أو يراد بها : النفس المطمئنّة التي تلوم النفوس اللوّامة وغيرها وتهديها إلى كمالها اللائق بها. وعلى هذا فكلمة « لا » زائدة ، يؤتي بها غالباً فيما قبل القسم ، ويمكن أن يراد بها : النفس الخاطئة الفاجرة التي تلوم نفسها في الدنيا على ما لم تنل إليها من الأموال والشهوات ، أو تلومها يوم القيامة على كفرها ونفاقها وعصيانها وطغيانها وأنّى لها الذكرىٰ وعلى هذا فكلمة « لا » نافية لا زائدة.

ثّم إنّ اتّصاف النفس بصفة اللوّامة لا يكون إلّا بعد أن تهذّب وتربّى بآداب الدين وتزكّى تطهّر بتعاليم الشريعة حتّى تتعوّد على

____________________________

١) القيامة : ١ ـ ٢.

١٦
 &

الأعمال الصالحة ويكون ذلك لها ملكة راسخة. فالصفة مرتبة كمال خاصٍّ تعرضها بالجهاد والرياضة وتحمّل مشاقّ الطاعة والعبادة ، ولها مراتب أخر في رقاها وتكاملها ككونها مطمئنّةً وقدسيّةً وهكذا.

ثمّ إنّ في ذكر النّفس اللوّامة بعد القسم بيوم القيامة إشارة إلى التشابه بين لوم الإنسان نفسه في الدنيا ومحاسبة الله إيّاها في القيامة ، فإنّ اللوم في الباطن لا يجري فيه إخفاء ذنبٍ وإذهاب حقٍّ وعذر في الأمر وكذب في القضاء ، فهو واقع في باطن اللائم بأعدل طريقٍ بعين الله تعالى وعلمه وإن لم يعلمه أحد ، والمحاسبة في القيامة كذلك ، فتُبلى فيها السرائر ، فلا يتيسّر لأحدٍ العذر والإخفاء والستر ، ونعوذ بالله من سوء الحساب يوم التغابن والتناد ، ومن الفضيحة على رؤوس الأشهاد.

وقال تعالى : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا ) (١). الشاكلة : اسم فاعل من شكل الشيء وشكّله ، إذا قيّده ، يقال : شكلت الدابّة أي : قيّدتها والمراد بها هنا : الطبيعة والسجيّة لأنّها تقّيد الإنسان بالعمل على طبق ميلها والجري على وفق هواها ، وتمنعه عن الانحراف عنه إلى غيره. فمفاد الآية الشريفة : أنّ الأعمال الصادرة من الإنسان مبناها الطبائع والسجايا ، فهي تصدر عن اقتضائها وهواها ودعوته إلى مناها. فإنّ بين الملكات والصفات النّفسية وبين الأعمال الخارجيّة رابطة خاصّة يحكم بها العقل والتجربة ، فإنّ الصادر في الحرب ـ مثلاً ـ من الشجاع مناضلة الأبطال ومن الجبان الفرار عن القتال ، وكلّ يحكي عن ملكةٍ خاصّةٍ. وكذا الفعل الصادر من السّخيّ

____________________________

١) الإسراء : ٨٤.

١٧
 &

والصادر من البخيل والعِشرة الصادرة من المتواضع والصادرة من المتكبّر ونحوها. فالشاكلة هي : النفس الإنسانيّة المتّصفة بصفاتٍ ، وهي التي يصدر منها الفعل بعزمٍ وإرادةٍ. والحامل لها على ذلك اقتضاء تلك الصفات. وينبغي أن يعلم أنّ دعوة الملكات نحو الفعل واقتضاءها له ليست بنحو العلّة التامّة حتّى يستشكل بلزوم الجبر في الأفعال وسقوط الثواب والعقاب ، بل بنحو الاقتضاء والعلّيّة الناقصة مع بقاء الاختيار في صاحب السجيّة وهذا كمن هو جائع أو عطشان وهنا غذاء وماء حرام مع عدم الإضطرار والإلجاء.

الأمر الخامس : قد عرفت فيما سبق أنّه قد أطلق على حقيقة الإنسان وجوهر وجوده الذي هو نفسه وروحه أسماء وألقاب في الكتاب الكريم بملاحظة آثار وجوديّة كامنة فيه ، وخواصّ وحالات موجودة فيه : كعنوان النفس والقلب ونحوهما ، والتأمّل في الآيات الكريمة يعطي أنّ إطلاق عنوان القلب عليه في الغالب بلحاظ الحالات والملكات الحاصلة له ، وإطلاق عنوان النفس بلحاظ وقوعه طرفاً للخطاب في التكاليف ولاستناد صدور الأفعال ورجوع نتائج الأعمال إليه. فهذا الموجود في اصطلاح الكتاب العزيز قلب من حيث اتّصافه بمختلف الصفات والملكات ، ونفس من حيث وقوعه مخاطباً بالتكاليف مأموراً بامتثالها ومجزياً بها في دنياه وآخرته. فلاحظ ما أسند إلى القلب في الكتاب العزيز من كرائم الصفات نظير كتابة الإيمان فيه ، وسلامته من الأمراض ، وتقواه ، وتعقّله ، وسكينته وطمأنينة ، ورأفته ، ورحمته ، وطهارته ، ووجله

١٨
 &

من ربّه ، وإخباته لخالقه ، ولينه ، وخشوعه ، ونحو ذلك.

ولاحظ أيضاً ما أسند إليه من رذائل الأخلاق من : تكبّره وختمه وطبعه وغلظته ، وشدّة خصومته مع ربّه ، وغفلته ، وغيظه ، وريبه ، ولهوه ، ورينه ، ونحو ذلك. وعلى هذا كان الأنسب أن يسمّى موضوع علم الأخلاق : الإنسان بما هو قلبه.

ثمّ لاحظ ما أسند إلى النفس في الكتاب الكريم من تكليفها بمقدار وسعها ومقدار ما آتاها ، وقبولها الإيمان ، وظلمها لنفسها وغيرها ، وأمرها بالسوء وكسبها الحسنات والسّيّئات ، وإلهامها فجورها وتقواها ، وارتهانها بما كسبت حتّى تفكّها ، ووسوستها لنفسها ، وتسويلها أمرها ، واتّباعها هواها ، ووقوعها تحت الحفظ والمراقبة من قبل ربّها ، وأخذها وتوفيتها عند النوم والموت ، وإمساكها أو إرسالها بعد الأخذ ، وإماتتها ووجدانها ما عملت يوم القيامة محضراً ، وتوفيتها بما كسبت ومجازاتها بما عملت ونحو ذلك.

وبالجملة : كأنّ هنا شخصين : أحدهما متّصف بصفات وملكات مختلفة قد وقع في معرض تعارضها وتزاحمها ويجرّه كلّ إلى مقتضاه ، فهو : إمّا من أكرم خلق الله وأشرف خليفته ، أو من أبعد مخلوقه وأشقى بريّته ، والآخر مخاطب بتكاليف مختار بين الطاعة والمعصية ، مسؤول في الدنيا والآخرة ، مجزىء بالثواب والعقاب. ولعلّ في هذا إشارة إلى أنّ الصفات ليست متعلّقة للتكاليف وإن كان لها دخل في متعلّقها ، لا أنّ هنا شخصين حقيقةً فتأمّل.

١٩
 &

الأمر السادس : قد أطلق على الجوهر اللطيف اسم الروح أيضاً ، وهو المراد في قوله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ) (١).

ولعلّ وجه إعراض الرّب تعالى عن الجواب لكون سؤالهم عن حقيقة الروح وماهيتها هو ظاهر اسم الجنس ، وكون إدراكها خارجاً عن استعداد عقولهم كما يشير إليه ذيل الآية.

والروح في اللغة بمعنى : سبب الحياة ومنشأها والعلّة المحدثة لها. وبهذا الاعتبار أطلق هذا الاسم في الكتاب العزيز على تلك الجوهرة اللطيفة عندما أريد بها حدوث الحياة للجسم كقوله تعالى : ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) (٢) وقوله : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (٣). فيعلم من ذلك أنّ هذا الموجود في ابتداء تلاقيه مع البدن وفي حين تأثيره في حياته روح كما أنّه بالقياس إلى اتّصافه بصفاتٍ بعد الاستقرار قلب وبالاضافة إلى توجّه التكاليف إليه والجزاء لها نفس. وإضافة الله تعالىٰ روح آدم إلى نفسه في الآيتين وشبههما وقعت تشريفاً لآدم النبي عليه‌السلام وأولاده اصطفاءً لهم لهذا الروح بين الأرواح نظير كون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خليله والكعبة بيته ، وإلّا فكلّ روحٍ محدث بإرادته ، مدبّر بتدبيره. وفي الحديث : « إنّ الأرواح جنود مجنّدة ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف » (٤). والمجنّدة : المؤلّفة المنظّمة ، وهي لا تنافي

____________________________

١) الإسراء : ٨٥.

٢) السجدة : ٩.

٣) الحجر : ٢٩ وص : ٧٢.

٤) بحار الأنوار : ج ٢ ، ص ٢٦٥ ـ ج ٥ ، ص ٢٤١ ـ ج ٦ ، ص ٢٤٩ ـ ج ٦١ ، ص ١٠٦ ـ ج ٦٧ ، ص ١٦٦ ـ ج ٦٨ ، ص ٢٠٥ ـ ج ٧٧ ، ص ١٦٥ ـ ج ٩٩ ، ص ٢٢٠ ـ مراة العقول : ج ٧ ، ص ٣٨.

٢٠