جنّة المأوى

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

جنّة المأوى

المؤلف:

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-379-379-7
الصفحات: ٣٥٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة



١٣

بني هاشم ، وبني امية والحسن عليه‌السلام ومعاوية

العداوات ، والتباغض بين الافراد والقبائل ، والجماعات غريزة بعيدة المدى في طبيعية البشر من أول عهده ، وبدء وجوده على هذه الكرّة من عهد هابيل وقابيل مستمرة في جميع الاجيال الى هذا الجيل ومنشأ العداوة وبواعثها غالبا هو التنافس والتعالي والأنانية التي تدفع الى حب الاثرة والغلبة السيطرة ، والاستيلاء على مال او جاه ؛ أو ولاية وامرة ، وأنكى العداوات ، العداوات التي تبعث عن ترة وطلب ثار وغسل عار وللتشفى والانتقام ، ولكن اسوأ العداء ، أثراً ، وأبعده مدى ، والذي يستحيل تحويله ولايمكن زواله هو عداوة الضدية الذاتية ، والمباينة الجوهرية كعداوة الظلام للنور ، والرذيلة للفضيلة ، والقبح للحسن ، والشرّ للخير وامثال ذا.

فان هذا العداوة والتنافر يستحيل من أن يزول الاّ بزوال احدهما اذ كل يضاد الاخر في اصل وجوده وطباع ذاته ، وكل واحد يمتنع على الاخر فلا يجتمعان ولا يرتفعان ؛ فالذوات الشريرة بذاتها وفي جوهرها تضاد الذوات الخيرة وتعاديها ، وكلها واحد من هذين المتضادين المتعاندين يجد ويجتهد في ازالة الآخر

٨١

ومحوه من الوجود كالنور والظلام لايجتمعان في محل واحد ابداً ، وكل منهما بطباعه يتنافى مع الآخر ويعاديه وكالفضيلة والرذيلة في الانسان ، وعلى هذا الطراز ، ومن هذا النوع عداوة بني هاشم وبني أمية ، عداوة جوهرية ذاتية يستحيل تحويلها ويمتنع زوالها ، عداوة الظلام للنور ، والشر للخير ، والخبيث للطيب ؛ ويعرف كل واحد منهما بثماره وآثاره. وقديماً قيل : « من ثمارهم تعرفونهم » الشجرة لا تعرف الا من ثمرها أنها خبيثة أم طيبة ؛ والانسان لا يعرف خبثه وطيبه الاّ من أعماله وملكاته وخصاله.

أولد عبد مناف هاشما ، وعبد شمس ، ونشب العداء بينهما منذ نشأ وشبا لالشيء سوى اختلاف الجوهرين ، تباين الذاتين ، ثم استشرى الشر واتسعت عدوى العداء بين القبيلين بحكم الوراثة ، وكان لكل واحد من هذا القبيل ضد له من القبيل الاخر ، فعدوه بالنسب ؛ هاشم وعبد شمس ، وعبدالمطلب وأميّة ، وأبوطالب وحرب ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبوسفيان ، ما اشرقت أول بارقة من أشعة الاسلام وما اعلن البشير النذير بدعوة التوحيد الاّ وثارت نعرة الشرك والوثنية لطمس أنوار الاحدية ، وقام بجمل معاول المعارضة والهدم لما يبنه ويتبناه منقذ البشرية من مخالب الوحشية ، قام بها ثالوث الجبت والطاغوت ، أبوجهل ، وأبولهب ، وأبوسفيان ، وكان الثالث زعيم الحزب الاموي أشدهم مناوئة للاسلام ومحاربة له ؛ نصبوا كل الحبائل ، وتوسّلوا بجميع الوسائل لاخفات صوته ، واخماد صوته ؛ واعملوا كل بأس ، وسطوة في مقاومة تلك الدعوة ، حتى ألجأت جماعة ممن تدين بها فهاجروا الى الحبشة.

وتحمل النبي واصحابه من الاضطهاد والاذى أكثر من عشر سنين حتى اضطر الى الجلاء من وطنه ووطن آبائه ، ومركز عزّه ، فهاجر الى يثرب فطارده أبوسفيان ، وتلاحقه الى دار هجرته ، وما رفعت رأية حرب على الاسلام الاّ

٨٢

وبنو أمية وزعيمهم أبوسفيان قائدها ورافعها يلهب نارها ويثير غبارها ويتربص باخماد ذلك النور ، الدوائر ، ويهيج نعرة القبائل ، الى أن فتح الله الفتح المبين وأمكن الله نبيّه من جبابرة قريش وملكهم عنوة ، فصاروا عبيداً وملكا بحكم قوانين الحرب ، والاستيلاء على المحاربين ، بالقوة والسلاح ، ولكنه سلام الله عليه أطلقهم وعفاعنهم ، وقال لهم : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، واكتفى منهم بظاهر الاسلام واطلاق لسانهم بالشهادتين ، وقلوبهم مملوءة بالكفر والحقد على الاسلام ، يتربصون الفرص لمحو سطوره ، وقلع جذوره وما اسلموا ، بل استسلموا ، ولما وجدوا أعواناً على الاسلام وثبوا » ما تغيّر شيء نفسيات أبي سفيان وبني أمية بعد دخولهم في حظيرة الاسلام قلامة ظفر ، انما تغيّر وضع المحاربة ، وكيفية الكفاح والمقاومة.

دخل أبوسفيان ومعاوية في الاسلام ، ليفتكوا في الاسلام ويكيدوا له والعدو الداخل أقدر على الكيد والفتك والعدو الخارجي ، وهذه العداوة ذاتية متأصلة ؛ والذاتي لايزول وليست هي من تنافس على مال ، أو تزاحم على منصب أو جاه ، بل هي عداوة المبادي ، عداوة التضاد الطبيعي ، و التنافر الفطري ، عداوة الظلام للنور ، والضلال للهدى ، والباطل للحق ، والجور للعدل ، ولذا بقى بنور أمية على كفر هم الداخلي ومكرهم الباطني مع عدادهم في المسلمين وتمتعهم بنعم الاسلام وبركاته لكن لم يمس الاسلام شعرة من شعورهم ولابلّ ريشة من اجنحتهم كالبط يعيش طول عمره في الماء ولايبل الماء ريشه منه. ( فيما يقولون ) نعم أقرّوا باسلامهم حقنا لدمائهم وتربّص السنوح الفرصة لهدم عروش الاسلام وقواعده ، حتى اذا أدلى من كانت له السلطة بالخلافة الى أول خليفة منهم طاروا فرحا ؛ وأعلنوا ببعض ما كانت تكنه صدورهم ، فجمعهم أبوسفيان وقال : « تلقفوها با بني أمية ، تلقف الكرة ؛ فوالذى يحلف به أبوسفيان ما من جنّة ولانار ».

ثم أخذوا زمام الخليفة الاموي بأيديهم ، وصاروا يقودونه « كالجمل الذلول »

٨٣

حيث شاؤوا ، فاتخذوا مال المسلمين دولاً ، وعباد الله خولاً ، وانتقضت بلاد المسلمين من جميع أقطارها عليه وعليهم الى أن حاصروه في داره ، وضايقوه على أن يخلع نفسه من الخلافة ، ويجعلها شورى بين المسلمين فتقاعس وتصلّب أولا ، ثم لما اشتد الحصار عليه وحبسوا عنه حتى الماء والطعام تراخت أعصابه ، ووهنت أطنابه ، وحاول أن يخمد نار الفتنة بخلع نفسه ، اجابة للثائرين الذين شددوا الحار فاحس بنو أمية وقيادتهم يومئذ بيد مروان في المدينة ، ومعاوية في الشام ، بأن صاحبهم اذا خلع نفسه فسوف يفلت الحبل من أيديهم ، وقد غلط الدهر أو غلط المسلمون غلظة يستحيل أن يعودوا لمثلها أبداً ، وبأى سابقة ، أو مكرمة لبني أمية أو جهاد في الاسلام يستحقّون أن تكون خلافة المسلمين في واحد منهم ، وهم اعداء الاسلام وخصومه في كل موقف من مواقفه ، وفي كل يوم من ايام ، أدرك كل ذلك مروان ومن معه من حزبه ، فتواطئوا مع زعيمهم بالشام أن يجهّزوا على صاحبهم فيقتلوه قبل أن يخلع نفسه وقبل ان يفلت حبل الحيلة من ايديهم ، نعم يقتلونه ويتخذون قتله ذريعة الى مطالبة فئة من المسلمين بدمه ؛ ويتظاهرون لسائر المسلمين بأنه قتل مظلوما ولابد من الاخذ بثاره فيكون أقوى وسيلة الى استرجاع الخلافة اليهم ، ولولا قتل عثمان وقميص عثمان لما صارت الخلافة الى معاوية ومروان وابناء مروان ، ولكان من المستحيل أن يحلموا بها في يقظة أو منام ، ولكن جاءت صاحبهم الاول من غير ثمن ، وقد دفعها اليه من قبله دفعا.

نعم اراد السابق أن يحولها عن بني هاشم الى خصومهم الالدّاء بني أمية ففتل حبل الشورى ، وابرمه بحيث تصير الخلافة لامحالة الى عثمان وما اكتفى بذلك حتى نفخ روح الطموح اليها في نفس معاوية الطليق ابن الطليق ؛ وهو وأبوه اكبر الاعداء الالدّاء للاسلام ، كان كل سنة يحاسب عمّاله ويصادر أموالهم ، ويعاملهم بأشد الاحوال الاّ معاوية ، تتواتر الاخبار لديه بأن معاوية يسرف في صرف

٨٤

أموال المسلمين ، ويلبس الحرير والديباج فيتغاضى عنه بل يعتذر له ، ويقول : « ذلك كسرى العرب » (١) مع أن معاوية كان من الضعة وافقر والهوان باقصى مكان ، كان من الصعاليك الساقطين في نظر المجتمع حتى ان احد اشراف العرب (٢) وفد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولما أراد الخروج أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معاوية أن يشيعه الى خارج المدينة وكان الحرّ شديداً والارض يغلى رملها ويفور ومعاوية حافي القدمين ، فقال للوافد الذي خرج في تشييعه.

ـ اردفنى خلفك

ـ أنت لا تصلح أن تكون رديف لاشراف والملوك !.

ـ ألا فاعطنى نعليك اتقى بهما حرارة الشمس.

ـ أنت احقر من أن تلبس نعلى.

ـ ما أصنع وقد احترقت رجلاي ؟

ـ امشى في ظل ناقتى ولا تصلح لاكثر من هذا !!

تعساً لك يا زمان وأف لك يا دهر هذا الصعلوك النذل صار أو صيّروه كسرى العرب !!!

نعم : ومروان هما اللذان دبّرا الحيلة في قتل عثمان ، ومكّنوا الثائرين من قتله ، وقضية الجيش الذي أرسله معاوية من الشام الى المدينة ووصيته له بأن لايدخل المدينة حتى يقتل تشهد لذلك وهي مشهورة.

نعم : وقد أعانهم على قتله ايضا احدى زوجات النبي التي كانت تهرج على عثمان وتصرخ في النوادى « اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا » ثم بعد أن امتثلوا أمرها

__________________

(١) في كتاب « الامالي » للقالي البغدادي ما هذا لفظه. قال : وكان عمر اذا نظر معاوية يقول : هذا كسرى العرب ، قال : فكان معاوية يقول : مارايت عمر مستخليا رجلا قط الا رحمته ، انظر الامالي ، ج٢ ، ص ١٢١ ، ط ٢ ، مصر ١٣٤٤ ه‍.

(٢) هو علقمة بن وائل الحضرمي ـ انظر سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٢٩٣ ، نقلا عن المحاسن للبيهقي.

٨٥

وقتلوه ، ثار أو أثاروها الى الطلب بدمه ، وكانت من جرّاء ذلك واقعة الجمل التي ذهب ضحيتها عشرون الف من المسلمين وفتحت باب الحروب بين أهل القبلة ، وقال احد شعراء العصر يخاطبها ويؤنبها :

وأنت البلاء وانت الشقاء

وأنت السحاب وأنت المطر

وأنت أمرت بقتل الامام

وقلت لنا انه قد كفر

وقال الاخر :

جاءت مع الاشقين في هودج

تزجى الى البصرة اجنادها

كأنها في فعلها هرة

من جوعها تأكل أولادها

وهذه النكات الى رشح القلم بها هنا وهي من اسرار دقائق التاريخ والتي قلّ من تنبه لها انما جاءت عفوا ، وما كانت من القصد في شيء ، انما المقصود وبالبيان ان معاوية وأباسفيان لما بهرهما الاسلام وقهرهما على الدخول فيه حفظاً لحوبائهما ، من التلف ؛ اظهر الاسلام صورة واضمرا الكيد والفتك به سريرة ، وبقيا يتربصان فكلما سنحت فرصة لذلك ظهرت ركيزتهم في اقوالهم وفي اعمالهم.

وكان معاوية ادهى من أبيه الذي كبر وخرف في آخر عمره ومن دهائه وعزمه كان تحتفظ بصورة الاسلام مدة امرته بالشام عشرين سنة فلا يصطدم بشعيرة من شعائره ، ولا يتطاول الى اعتراض قاعدة من قواعده فلا يتجاهر بشرب الخمر والاغاني (١) ولايقتل النفس المحرمة ، ولايلعب بالفهود والقرود ، ولايضرب على المزمار والعود ، نعم : قد يلبس الحرير والديباج وطيلسان الذهب ولا بأس بذلك فانه « كسرى العرب » وما اختفظ بشعائر الاسلام الا لحاجة في نفس يعقوب ، ومن باب الهدوء قبل العاصفة والمشي رويداً لاخذ الصيد.

__________________

(١) ذكرنا نزراً يسيراً من اعمال معاوية على ضد الاسلام في تعاليقنا على كتاب اللوامع الالهية ، ص ٤٥٠ ـ ٤٥٣.

٨٦

بقى على ظاهر هذا الايمان المبطن بالكفر مدة مخالفته ومحاربته لاميرالمؤمنين في صفّين ، فلما استشهد سلام الله عليه تنفس الصعداء وغمرته المسرّة ، وامكنته الفرصة من اللعب على الحبل وتدبير الحيل ؛ ولكن بعد أن بويع الحسن عليه‌السلام والتف عليه الأبطال من اصحاب أبيه. وشيعته ومواليه ومنهم الرؤوس ، والضروس ، والأنياب ، والعديد ، والعدة ، والسلاح ، والكراع ، فوجد أنه وقع في هوة اضيق واعمق من الاولى ، فان الحسن عليه‌السلام سبط رسول الله ، وابن بنته ، وريحانته ، وهو لوداعته ؛ وسلامة ذاته محبوب للنفوس لم يؤذ احداً مدة عمره. بل كان كلّه خير وبركة ، ولم تعلق به تهمة الاشتراك بقتل عثمان ، بل قد يقال : انه كان من الذابّين عنه فكيف يقال معاوية به وكيف يعدل الناس عن ابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى ابن هند آكلة الاكباد. اقلق معاوية ، وأقض مضجعه التفكير بهذه النقاط المركّزة التى لا مجال فيها للنقاش والجدال ، ولكن سرعان ما اهتدى بدهائه ومكره الى حل عقدتها وكشف كربتها ، فلجأ الى عاملين قويّين أولهما المال الذي يلوى اعناق الرجال ، ويسيل في لعبه لعاب الابطال وبعث الى اعظم قائده من قادة جيش الحسن الذين بايعوه على الموت دونه وامسهم رحماً به وهو عبيدالله بن العباس الذى جعله أميراً حتى على قيس ابن سعد بن عبادة ذلك الزعيم العظيم الفارس المغوار المتفاني اخلاصاً في حب الحسن عليه‌السلام وأبيه عليه‌السلام. (١)

__________________

(١) كان قيس من اكابر فضلاء الصحابة وعلمائهم واحد دهات العرب وكرمائهم وشرفائهم ومن بيت سيادتهم ومن ذوى الرأى الصائب والمكيدة في الحرب مع النجدة والشجاعة لم يبايع ابابكر ولكن بايع معاوية بعد ان امره امامه الحسن المجتبى عليه‌السلام بالبيعة له لما راى من المصلحة انظر ايها القارى ، العزيز الى جور الزمان وتسافله الذي الجأ من لم يبايع ابابكر الى بيعة معاوية.

تعس الزمان فان في احشائه

بغضا لكل مبجل ومفضل

وتراه يعيش كل رذل ساقط

عشق النتيجة للأخس الارذل

مات قيس سنة : (٦٠) ه‍

٨٧

نعم : بعث اليه معاوية باكثر من خمسين الف ، ووعده عند مجيئه اليه بمثلها فانسلّ الى معاوية في جنح الظلام ، وأصبح الناس ولا أمير لهم فصلّى بهم قيس ، وهوّن عليهم ، هذه الفادحة أوهت عزيمة الجيش ، وهيأتهم للهزيمة. قبل النضال وقل ساعد الله قلبك يا ابامحمّد كيف تحمّلت هذه الرزايا التي اقبلت عليك متتابعة كقطع الليل ، وصار معاوية يعمل بهذه الخطة مع كل بارز من الشيعة ورجالهم و ابطالهم فأستمالهم اليه جميعا ، ولم يستعص عليه ويسلم من مكره وحبائله الاّ عدد قليل لا يتجاوز العشرة كقيس بن سعد ؛ وحجر بن عدي وامثالهم من ناطحوا صخرة الظلم والظلال براسخ ايمانهم ، وما اختلجهم الشك في كفر معاوية وأبيه و بنيه. طرفة عين وكان قيس « اقسم بالله أن لايلقى معاوية الاّ وبينهما الرمح او السيف » في قضية معروفة هذا « أول » تدبير أتخذه معاوية للغلبة على الحسن عليه‌السلام واستبداده بالامر واغتصاب الخلافة منه.

« و الثاني » و هي حيلة تأثيرها أشد من الاولى استطابها السواد الاعظم وانجرف اليها الرأى العام تلك دعوى معاوية الحسن عليه‌السلام الى الصلح ، نعم : اشد مافت في عضد الحسن طلب معاوية الصلح ، فقد كانت أفتك غيلة وأهلك حيلة لأن المال كان يستميل به معاوية عيون الرجال ، والخواصّ منهم.

اما العامّة فلا ينالهم منه شيء ولكن الناس كانوا قد عضّتهم انياب الحروب حتى أبادت خيارهم ، وأخرجت ديارهم ، في أقل من خمس سنين ثلاثة حروب ضروس : الجمل ، وصفين ، والنهروان ، فاصبحت الدعوة الى الحرب ثقلية وبيلة والدعوة الى الصلح والراحة لذيذة مقبولة ، وهنا تأزّمت ظروفه سلام الله عليه وحاسب الموقف حسابا دقيقاً ، حساب الناظر المتدبر في العواقب فوضع الرفض والقبول في كفتى الميزان ليرى لأيّها الرجحان ، فوجد أنه لو رفض الصلح وأصرّ على الحرب ، فلا يخلو أما أن يكون هو الغالب ، ومعاوية المغلوب وهذا وان كانت

٨٨

تلك الأوضاع والظروف تجعله شبه المستحيل ولكن فليكن بالفرض هو الواقع ، ولكن هل مغبّة ذلك الاّ تظلم الناس لبني أمية ، وظهورهم باوجع مظاهر المظلومية ، بالامس قتلوا عثمان عين الامويين ، وأميرالمؤمنين « كما يقولون » واليوم يقتلون معاوية عين الامويين ، وخال المؤمنين (١) ( يالها من رزية ) ويتهيأ لبني أمية

__________________

(١) قال العلامة الكراجكي رحمهم‌الله في كتابه « التعجب » ما هذا لفظه الشريف :

ومن عجيب أمر الحشوية ووقاحتهم في العناد والعصبية انهم يقولون ان معاوية ابن ابي سفيان خال المؤمنين ويقولون انه استحق بذلك بسبب ان اخته ام حبيبة بنت ابي سفيان احدى ازواج النبي الذين هم بنص القرآن للمؤمنين امهات ولايسمون محمد بن ابي بكر خال المؤمنين بل لا يذكرونه بذكر جميل وأخته عائشة اعظم ازواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عندهم قدراً وأجل الامهات في مذهبهم فضلاً وذكراً وليس يدانيها عندهم أم حبيبة ولا يقاربها ولا ابوها كأبيها فلم لا يسمون محمد بن ابي بكر خال المؤمنين ويكون أحق بذلك من معاوية بن ابي سفيان الفاسق اللعين الطليق بن الطليق لعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال اذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه وكان من المؤلفة قلوبهم ( انظر « المحبر » لمحمد بن حبيب النسابة المتوفى (٢٤٥) ه‍ ص ٤٧٣ ط حيدر آباد والمعارف لابن قتيبة ص ١٤٩ ط مصر ) ولم يحفظ قط حسنة يبسط معها في تفضيلهم له عذراً ولاورد في الاثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تسميته بخال المؤمنين فيصح قولهم وبايّ وجه استحق معاوية هذا الاكرام دون محمد بن ابي بكر ؟ وكيف يجب ان يحفظ ام حبيبة في أخيها معاوية ولم يجب ان يحفظ عائشة في اخيها محمد ؟

كلاّ ليس يخفى على العاقل ان بغضهم لاميرالمؤمنين عليه‌السلام حملهم على تفضيل محاربيه وتبجيل أعاديه ومعانديه واهمال ذكر اوليائه والمنسوبين اليه من اصفيائه وقد علم أن معاوية كان لاميرالمؤمنين عليه‌السلام عدواً وحرباً وان محمد بن ابي بكر كان له وليا وحزباً بذلك صار معاوية خالا للمؤمنين دون محمد بن ابي بكر ربيب اميرالمؤمنين عليه‌السلام مع ما أنه على الحقيقة واليقين لا يصح ان يكون أحد من أخوة أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خالا للمؤمنين ، وذلك الله تعالى انما جعل أزواج نبيه امهاتاً لهم ليحرم عليهم بعده العقد عليهم فلو كان معاوية او غيره خالا للناس لاجل ان اخته في حكم الامهات لحرم عليه وطىء مؤمنة لان الخال لا يحل ان يطأ بنت أخته أترى لو اجتمع اخوة ازواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كعبد الرحمن ومحمد بن ابي بكر اخوي عايشة وعبدالله وعبيدالله وعاصم ومعاوية بنو عمر بن الخطاب اخوة حفصة ويزيد ومهاجر ابنا أمية اخوي أم سلمة ومعاوية بن ابي سفيان اخوام حبيبة كيف كان يترتبون في منزلة الخئولة ؟ وهل كان بعضهم خالا لبعض ؟ أم هذا النعت مختص بمعاوية فقط وأيضاً :

قولهم ان معاوية كانت الوحي وقد كان بين يدى النبي أربعة عشر نفسا يكتبون الوحي وأقومهم

٨٩

__________________

أميرالمؤمنين عليه‌السلام فبماذا يستحق معاوية هذا النعت دونه ودون غيره من الكتاب ؟

وقد علم ان معاوية عليه الهاوية لم يزل مشركا مدة كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مبعوثا يكذب بالوحي ويهزء بالشرع وكان باليمن يوم الفتح يطعن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويكتب الى أبيه صخر بن حرب يعيّره باسلامه ويقول له صبوت الى دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وممّا كتب به الى ابيه منقب ان يسلم قوله :

ياصخر لاتسلمن طوعا فتفضحنا

بعد الذين ببدر أصبحوا مزقا

خالي وعمي وعم الام ثالثهم

وحنظل الخير قد اهدى لنا الارقا

لاتركنّن الى أمر يكلّفنا

والراقصات به في مكة الخرقا

فالموت أهون من قول العدات لقد

عاد ابن حرب عن العزّى اذا فرقا

فان أبيت أبينا ما تريد ولا

تدع عن اللات والعزى اذا اعتنقا

والفتح كان في شهر رمضان لثمان سنين من قدوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة ومعاوية يومئذ مقيم على شركه هارب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لانه كان قد هدر دمه فهرب الى مكة فلما لم يجد له مأوى صار الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مصير الاضطرار فاظهر الاسلام قبل وفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بخمسة اشهر او ستة اشهر وطرح نفسه على العباس بن عبدالمطلب فسئل فيه رسول الله. فعفا عنه ثم شفع له ان يشرفه ويضيفه الى جملة الكتاب فاجابه وجعله واحداً من اربعة عشر كتابا ، فكم ترى يخصه من الكتبة في مدة ستة أشهر حتى يستحق هذا النعت بكاتب الوحي لولا ما حملتهم عليه العصبية التي اصدت السمع واعمت البصر وليس يلتبس اهل العقل ان مجرد الكتابة لايحصل بها الفضل ما لم يقارنها صحيح الايمان وعقد القلب لانه قد كتب لرسول الله عبدالله بن ابي سرح ثم ارتد مشركا وفيه نزل « وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرَاً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ ولَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ » (سورة ١٦ آية : ١٠٦).

وروى ان آخر كتبة الوحي ابن ابي سرح وارتد من الاسلام ومات على الكفر ودفن فلم تقلبه الارض فكيف حصل لمعاوية هذا النعت تميّز به عن الخلق والمأثور ان رسول الله لعنه على منبره واخبر انه يموت على غير ملة.

ممّا روى في ذلك : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قام يخطب اخذ معاوية بيد أبيه فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لعن الله القائد والمقود أي يوم يكون لهذه الامة من معاوية ذي الاستاه.

وروى عن عبدالله ابن عمر انه قال أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فسمعت يقول : يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتى فطلع معاوية ، وفي خبر آخر : يطلع عليكم رجل من اهل النار فطلع معاوية ، وعن جابر ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يموت معاوية على غير ملتي ، ومن طريق آخر : يموت كافرا واشتهر عنه لم يمت الاّ وفي عنقه صليب ذهب وضعه له في مرضه أهون المتطبب وأشار اليه بتعليقه فأخذه من كنيسة يوحنا وعلّقه في عنقه. وروى ايضاً انه تشافى بلحم الخنزير فأكله قبل موته وغير ذلك مما لايحصى ، وانما تتآسى القوم هذه

٩٠

قميص ثاني فيرفعون قميص عثمان مع قميص معاوية ، والناس رعاع ينعقون مع كل ناعق لاتفكير ولاتدبر ، فماذا يكون موقف الحسن اذاً ؟ لو افترضناه ، هو « الغالب ».

أما لو كان هو « المغلوب » فاوّل كلمة تقال من كل متكلم ان الحسن هو الذي ألقى نفسه بالتهلكة ، وسعى الى حتفه بظلفه ، فان معاوية طلب منه الصلح الذي فيه حقن الدماء فابى وبغى ؛ وعلى الباغي تدور الدوائر وحينئذ يتم لمعاوية وابي سفيان ما أراد من الكيد للاسلام وارجاع الناس الى جاهليتهم الاولى ، وعبادة اللاّت والعزّى ، ولايبقى معاوية من أهل البيت نافخ ضرمه ، بل كان نظر الحسن عليه‌السلام في قبول الصلح ادقّ من هذا وذاك أراد أن يفتك به ويظهر خبيثة حاله : وما ستره في قرارة نفسه قبل أن يكون غالباً أو مغلوبا ؛ وبدون أن يزجّ الناس في حرب ، ويحملهم على ما يكرهون من اراقة الدماء.

فقد ذكرنا أن معاوية المسلم ظاهراً العدو للاسلام حقيقة ، وواقعاً كان لوجود المزاحم يخدع الناس بغشاء رقيق من التزمت في ارتكاب الكبائر والموبقات ، وما ينطوى عليه من معاداة الاسلام وتصميم العزيمة على قلع جذوره واطفاء نوره ؛ يتكتم بكلّ ذلك خوفا من رغبة الناس الى الحسن وأبيه من قبل فاراد الحسن أن يخلى له الميدان ، ويسلم له الامر ويرفع الخصومة ، حتى يظهر ما يبطن ، ويبوح بكفره ، ويعلن ويرفع عن وجهه ذلك الغشاء الصفيق ويعرف الناس حقيقة أمره ، وكامن سره ، وهكذا فعل ، وفور ابرام الصلح صعد المنبر في جمع غفير من المسلمين ، وقال :

__________________

الاخبار وامثالها ولم يلتفتلوا الى شيء منها لما جاهر به معاوية من معالجة اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب عليه‌السلام وتناهيه في جهاده وحربه وانه قتل خيار أصحابه وشيعته ولعنه على المنابر وجعل بغضه يتوارث نصا ولذلك قيل كاتب الوحي وخال المؤمنين والخليفة الحليم والسميح الكريم ونسي جميع ما روى فيه بالويل الطويل ويلهم من رب العالمين (١ ه‍).

٩١

« اني ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلّوا وانما قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد اعطيت الحسن شروطا كلّها تحت قدمي ».

انظر الى القحة والصلف وعدم الحياء وضيق الوعاء وصفاقة الوجه ؛ أما وايم الله انه لو لم يكن لقبول الصلح الا ظهور هذه الكلمات من معاوية لكفى بها دليلا على افتضاح معاوية ، ومعرفة الناس بكفره ، فما ظنك به وقد استمر على هذه الخطة الكافرة ، والخطيئة السافرة ، والتحدي للاسلام وهدم قواعده جهاراً.

لولا صلح الحسن لما استلحق معاوية زيادا بابي سفيان ، وهو ولده من الزنا ، فضرب قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « الولد للفراش وللعاهر الحجر » ضربها بالحجر وبعرض الجدار بلاخيفة ، ولاحذار.

لولا الصلح لما قتل حجر بن عدي سيد الأوّابين ؛ وعشرة من اعلام خيار الصحابة والتابعين ، قتلهم بمرج عذراء ـ من قرى دمشق ـ صبراً ، من دون أي سبب مبرر.

لولا الصلح لما قتل معاوية الصحابي الجليل عمرو بن الحمق وحمل رأسه الى الشام ، وهو أو رأس حمل في الاسلام.

لولا الصلح لما سقى معاوية الحسن السمّ على يد جعيدة بنت الاشعث.

لولا الصلح لما أجبر معاوية البقة الصالح من أولاد المهاجرين والانصار على أخذ البيعة ليزيد ، وحاله في الفسق والفجور مشهور الى كثير من أمثال هذه المخازي ، والفظايع التي لا يبلغها الاحصاء. ولكن تأمل ملياً وأنظر من الغالب ومن المغلوب ، أنظر ما صنع الحسن بمعاوية في صلح وكيف هد جميع مساعيه وهدم كل مبانيه حتى ظهر الحق وزهق الباطل ، وخسر هنالك المبطلون ، فكان الصلح في تلك الظروف هو الواجب والمتعيّن على الحسن عليه‌السلام، كما أن المحاربة والثورة على يزيد في تلك الظروف كان هو الواجب والمتعين على أخيه الحسين ، كل ذلك للتفاوت بين الزمانين والاختلاف بين الرجلين.

٩٢

ولولا صلح الحسن الذي فضح معاوية ، وشهادة الحسين التي قضت على يزيد ، وانقرضت بها الدولة السفيانية بأسرع وقت.

لولا تضحية هذين السبطين لذهبت جهود جدّهما بطرفة عين ، ولصار الدّين دين آل أبى سفيان دين الغدر والمكر ، دين الفسق والفجور ، دين الحانات والخمور ، دين العهار والقمار ، دين الفهود والقرود ، دين ابادة الصالحين واستبقاء الفجرة الفاسقين. (١)

فجزاكما الله ياسيدى شباب الجنة ويا سبطي رسول الله ، جزاكما الله على الاسلام وأهله أفضل الجزاء ، فوالله ما عبد الله عابد ولا وحّده موحّد ، وما حقت فريضة ولا أقيمت سنة ولا ساغت في الاسلام شريعة ولا زاغت من الضلال الى الهدى أمة الاّ ولكما بعد الله ورسوله الفضل والمنّة والحجة البالغة والمحجّة.

جاء رسول الله بالهدى والنور الخير والبركة للانسانية أجمع من غير لون ولون وعنصر آخر وأمّة دون أمّة وقوم سوى آخرين جاء بالاسلام والنور المبين فشيّد قواعده واحكمه واقومه واكمله وأتمه ولم يترك فيه أي نقص وأي عوج وجاء أبوسفيان والشجرة المعلونة في القرآن : معاوية ويزيد ومروان ، فحملوا معاول الكفر والشرك وتحاملوا على تلك الاسس والقواعد يقلعون جذورها ويخمدون نورها يُرِيدُنَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بَأَفْواهِمِمْ ويَأْبَى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ولَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٢) فوقف السبطان بمالهما من قوة وسلطان سدّاً منيعاً دون ذلك البنيان وما تمّ لهما ما أرادا من حفظ شريعة جدهما الا بالتضحية العظمى بأنفسهم وأموالهم ورجالهم واطفالهم وبكل ما في دنيا النعمة والنعيم والعيش الوسيم ، بذلوا

__________________

(١) والاجدر أن يقال : لولا صلح الحسن عليه‌السلام وشهادة الحسين عليه‌السلام لما بقى للاسلام اسم ولا رسم كما ذكره الشيخ الاستاذ رحمه‌الله في بعض كلماته.

(٢) سورة ٩ آية : ٣٢.

٩٣

كل ذلك في سبيل الله ولحفظ دين الله ، ولو لا هذه التضحية وتلك المفادات لأصبح دين الاسلام اسطورة من الاساطير لاتجده الا في الكتب والقماطير يذكره التاريخ كما يذكر الحوادث العابرة والامم المنقرضة.

« سبحان الله والله اكبر ولله الحمد » من هنا تعرف ويجب أن تعرف السرّ في حفاوة المنقذ الاعظم تلك الحفاوة البليغة والتعظيم الخارج عن نطاق العرف والمعتاد بل وعن رواق التعقل والسداد ذلك النبي العظيم والشخصية والحبيبة الى المبدء الاعظم التي ملاءها هيبة وعظمة ووقارا ، والذي لا تهزه العواصف ولا تستميله العواطف ولا خامره في لحظة من عمره العبث واللهو واللعب الذي كانت غريزته التي فطر عليها قوله : « ما أنا من دد ولا الدد منى » والذي كان من الوقار والهيبة والأتز ان ربما يدخل عليه الرجل الذي ما رآه من ذي قبل فترتعد فرائصه من هيبته فيقول له النبي : « لا تفزع فانى ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد »حذراً من أن يقول المسلمون فيه ما قالت النصارى في المسيح هذا الطود العظيم ، يحمل الحسن والحسين وهما طفلان على كتفيه ، ويمشى بهما وهما على متنيه فى ملاء من المسلمين رافعا صوته ليسمعوا « نعم الجمل جملكما ، ونعم الراكبان انتما » ثم يأتي الحسين وهو غلام فيعلو على ظهر النبي والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ساجد فلا يرفع رأسه حتى ينزل الحسين عليه‌السلام حسب ارادته ، النبي يخطب والحسين يدرج في المسجد فيعثر فيقطع النبي خطبته ؛ ويعدو اليه ويحتضنه ويقول : « قاتل الله الشيطان ، الولد فتنة لما عثر ولدى هذا أحسست أن قلبي قد سقط مني » الى كثير من أمثال هذا صدر عنه سلام الله عليه في ولديه مما لست بصدد احصائه وجمعه.

ولكن أقول : ان هذا الشغف ، والحب اللامتناهي ليس لكونهما ابني بنته فحسب فان هذه النسبة لا تستوجب كل هذا العطف الخارق لسياج العرف والعادة ، ولكن لا شك ان هناك اسراراً واسبابا هي ادق واعمق ، اسرار روحية هي فوق هذه

٩٤

الوشايج الجسمية ، فهل ترى معى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعله ارتفع عن افق الزمان ، واشرف بروحيته المقدسة من نافذة الدهر ، واطل على صحيفة التكوين من ألفه الى يائه ، فنظر الى الماضي والحاضر والآتي نظرة واحدة ؛ رأى الحوادث الآتية ممثّلة بعينها في صحيفة الوجود لابصورها على شاشة التمثيل ، رأى ما كابد ولداه من الدفاع عن دينه ، والحماية لشريعته والتضحية بانفسهم وأموالهم وأولادهم ، وأنهم ارخصوا في المفادات كل غال وعزيز ، تجرّع الحسن السمّ من معاوية مرارا حتى قضى بالمرّة الاخيرة التي تقيأ بها كبده قطعة قطعة.

ثم ضرب الحسين عليه‌السلام المثل الاعلى في التضحية والمفادات لحفظ شريعة جده ، فاستقبل السيوف والرماح والسهام وجعل صدره ونحره ورأسه ورئته ، وقاية عن المعاول التي اتخذها بنو أمية لهدم الاسلام ، وقلعه من اساسه ، ونصب نفسه وأولاده وانصاره ، الغرّ الميامين هدفا وشبحا لوقاية الاسلام من أن تنهار دعائمه ، وتنهد قواعده وقوائمه ، بهجمات الامويين عليه ، حتى سلم الاسلام واشرقت أنواره ، وعلمت اسراره ، وهلك الكافرون وخسر هنا لك المبطلون ، وكانت كلمة الله العليا ، وكلمة اعدائه السفلى ، وكل مسلم من أول اسلام الناس الى اليوم بل والى يوم القيمة مدين ورهين بالشكر والمنة لهذين الامامين ؛ ولو لا تضحيتهما التي ماحدث التاريخ بمثلها ابدا.

نعم لولا تلك التضحية لعاد الناس بمساعي الامويين الى جاهليتهم الاولى بل أتعس اذاً ، فهل تستغرب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الحفاوة والتعظيم لهما وهما طفلان صغيران ، وقد عرب بل رأى بعين بصره تلك الحوادث الفجيعة ؛ وذلك الكفاح المرير من اجله وفي سبيله ، وكان يشمهما ويضمهما ويقول : « هما ولداي وريحانتاي » وباليقين انه كان ينتسم منهما العبق الربوبى ، ويتوسم بهما الالق الالهي وبهذا نعرف ويجب ان نعرف أن الحسن والحسين ، نور واحد لا يفضل احدهما على

٩٥

الاخر قدر عرض شعرة كل واحد منهما قد قام بواجبه ؛ وأدّى رسالته ؛ وعمل بالمنهاج المقرر له من جده وأبيه والصك الذي تسلمه في اول يوم من امامته ، اذا أردت التوسّع في معرفة عظمة الحسن سلام الله عليه وشجاعته ، وبسالته ، وقوة قلبه ، وشدة عارضته ، وبليغ حجته ، وعدم اكتراثه بزخارف الملك ، وابهة السلطان ، فانظر الى كلماته واحتجاجاته في مجلس معاوية مع رؤوس المنافقين ، وضروس الكفرة الملحدين الذين كان معاوية يحرش بينهم وبين الحسن ليضحك على ذقونهم ، كابن العاص وابن شعبة ومروان ونظرائهم من زبانية جهنم الذين ما آمنوا بالله طرفة عين ، انظرها واعجب بها ماشئت هناك تتمثّل لك العظمة في أوج رفعتها ، وتتصوّر لك البسالة في موج لجّتها ، وان شئت المزيد فانظر الى كلماته ساعة الموت ويوم انطلاقه من هذا السجن. الكلمات التي قالها لاخيه محمّد بن الحنفية في حق أخيه الحسين ، هنا لك تنفتح لك اغلاق اسرار الامامة ، ويتضح لديك اشراق أنوار النبوة الزعامة ، وتعرف المرعوية النبوية والولاية الكلية هنا لك الولاية لله « والنبي أولى بالمؤمنين من انفسهم » ومن كنت مولاه فعلى مولاه وانما وليّكم الله ورسوله الاية.

وقد زحف القلم ، وخرج عن المحدد واشتمر عن قصد الجادة وجادة القصد ، انما القصارى التي اردتها من كلمتي هذه ان العداوة بين بني هاشم وبني امية متأصلة هي عداوة الهدى للضلال ، والنور للظلام ؛ ويشهد لذلك أنك لو استعرضت سيرة بني أمية من أولهم من عبد شمس الى آخرهم مروان الحمار لم تجد في صحيفة الكثير بل الاكثر منهم الا الغدر والمكر ونكث العهود ، والفسق والفجور ، والعهر والخنا وأنباء الزنا الى كل ما يتحمّله لفظ الرذيلة من المعاني.

واذا استعرضت سيرة بني هاشم من أوّلهم ليومنا هذا لم تجد في صحيفة الكثير بل الأكثر منهم الا كلما تحمله لفظ الفضيلة من الوفاء والصدق والشجاعة والعفة ،

٩٦

وطهارة المولد ، وشرف النفس وعلوّ الهمة ، والتضحية في سبيل المبدأ وما الى ذلك من كرم الاخلاق ، وطهارة الاعراق ، وهب أن هناك من يعذر بني أمية في عداوتهم لبني هاشم ويقول :

انهم اتخذوها ذريعة ووسيلة الى الملك والسلطان. ولكن ما عذر الموالين لبني أمية في هذا العصر ما عذر الاموية الحديثة ، التي لاتنال بذلك حظا من حظوظ الدنيا ولانصيباً في الاخرة.

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١) خَسِرَ الدُّنْيا والآْخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الخُسْرانُ المُبِينُ (٢).

والحمدلله الذي فقأ عيني الكفر والنفاق ، وأقرّ عيني الاسلام والايمان بالحسن والحسين ، والعترة الطاهرة ؛ ونسأله تعالى كما منّ علينا بمعرفتهم وولايتهم أن يحشرنا في زمرتهم ، ويكرمنا بشفاعتهم والبراءة من اعدائهم وعداوتهم :

أو اليكم ما دجت مزنة

وما اصطخب الرعدأ وجلجلا

وأبرء ممن يعاديكم

فان البراءة شرط الولا

وحقّاً الزّكي أبا محمّد سلام الله عليه في المدة القصيرة التي عاشها بعد أبيه تحمّل من الرزايا والمحن ما لم يحتملها نبي أو وصي نبي ، وما هي بأقل من المصائب التي جرت على أخيه أبي عبدالله عليه‌السلام يوم الطف فان النكبة الاليمة ، والضربة الاثيمة في الاخوين واحدة وان اختلفت الاشكال والاساليب وكما أن الحسين قبل رزاياه بالصبر الذي عجبت منه ملائكة السماوات ، فكذلك الحسن قاتل عدوّه. وقابل

__________________

(١) سورة كهف آية : ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٢) سورة حج آية : ١١.

٩٧

الأمّه وأرزائه بصبر عجيب. وصدر رحيب ماهان يوما ولالان. ولاتضرع ولااستكان وما اخذ من أمواله اغتصبها معاوية منه وصارت العوبة بأيدي بني امية ، وما أخذوا احداً من الآف بل من مئات الآلآف وكما لامساغ للتفاضل بين هذين النيّرين ، كذلك لايصح القول بأن صبر الحسن دون صبر الحسين ، أو أن مصيبته أهون المصيبتين ، فسلام الله عليكما يا امامي الهدى وسليلي عليٌّ والزهراء عليها‌السلام ما أزهرت الفضيلة واكفهرت الرذيلة.

واختم كلمتي بأبيات من خاتمة قصيدة رثاء لسيد الشهداء نظّمتها منذ مدّة تزيد على خمسين سنة أستهلها :

خذوا الماء من عيني والنار من قلبي

ولا تحملوا للبرق منا ولا السحب

وأختمها :

بنى الشرف الوضاح والحسب الذي

تناهي فاضحى قاب قوسين للربّ

لئن عدت الاحسان للفخر أو غدت

تطاول بالانساب سيارة الشهب

فما نسبي الا انتسابي اليكم

وما حسبي الا بأنكم حسبي

٩٨



١٤

حسين منّي وأنا من حسين عليه‌السلام

السؤال :

أسمع من كثير من الخطباء على منبر الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام أحاديثا جمّة يذكرونها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن جملتها هذا الحديث : حسين منى وأنا من حسين ، وكلّما أمعنت النظر واكثرت من التفكير فيه لم أصل الى حد يوقفني عنده ، فاعلم في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « حسين منّي » هو ان الحسين ولد من فاطمة عليها‌السلام وفاطمة ابنة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن يقف حدّى أتحرج في تفكيرى ويختلف عقلي في تفسيرها.

الجواب :

الاول : من المحتمل ان المراد به ما هو الدراج المتعارف حيث يقول الرجل لولده او أخيه او أحد أقربائه : أنا منك وأنت مني ، ويستعمل في مورد الكناية من شدّة الاتصال والقرب المقتضى للمودّة والمحبة لانهما من شجرة واحدة ومتفرّعات من اصل واحد ، فيكون المراد والله العالم اني أنا والحسين من نور واحد وشجرة واحدة

٩٩

أحبّه ويحبني وأتصل به ويتصل بي ؛ ويؤيد هذا المعنى شيوع هذالاستعمال وكثرته والمشكوك يلحق بالأعم الأغلب ، والذي يبعده انه معنى تافه لامزية فيه للحسين عليه‌السلام بل ويشاركه ابوه وأخوه بل سائر بني هاشم ، وسياق الكلام يقتضى ان يكون المراد بيان مزية تختص بالحسين من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دون غيره.

الثاني : ان يكون المراد ـ والله أعلم ـ المعنى الذي يقصد بقولهم النخلة من النواة والنواة من النخلة ، وفي الشجرة بذرة منها توجد الشجرة ، فيكون كناية عن كون الحسين عليه‌السلام قد انطوى فيه جميع كمالات الشجرة أي كمالات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ففيه كمالات النبوة المعنوية دون النبوة الظاهرية الرسمية ، وهذا المعنى يؤيده مساعدة الاعتبار ومطابقة الحقيقة والوجدان ، يبعده لازمه اختلاف سياق الجملتين كما لايخفى على المتأمل.

الثالث : من المحتمل يكون المراد الاشارة الى ما هو المعلوم والمقطوع به من أنّه لولا شهادة الحسين عليه‌السلام لما بقى للاسلام اسم ولارسم فان أباسفيان ونغلاه (معاوية ويزيد ) ، حاربوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الجاهلية وحاربوه في الاسلام لمحو الاسلام وطمس آثاره وأنواره وقد تسنّى لهم ذلك بعد شهادة اميرالمؤمنين على عليه‌السلام واستقامة الامر لمعاوية بعد صلح الحسن عليه‌السلام ، ولو تمّ الامر ليزيد كما تم لأبيه لمحى الاسلام بالتمام وأعاد الجاهلية على بكرة أبيها وبتمام معانيها ، ولكن جزى الله الحسين عليه‌السلام عن الاسلام أحسن الجزاء فلقد حفظه بشهادته وفداه بدمه ودم الصفوة من أهل بيته وأصحابه الذين ما خلق الله لهم مثيلا على وجه الارض لافي عصرهم فقط بل منذ خلقت الدنيا الى وقتك ، هذا فبقاء شريعة الاسلام ونبوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الحسين عليه‌السلام ، وهذا المعنى عال شريف ، وهو عين الحقيقة والواقع ، وهي مزيّة اختص بها دون أبيه وأخيه فضلا عن غيرهم ؛ ولكن يبعده استلزامه اختلاف سياق الجملتين ايضا ، اذ يكون الحاصل حسين مني ولادة وشريعتي من الحسين بقاء واستدامة.

١٠٠